ملحم خلف "المهذب".. هل دجّنته السلطة؟

نذير رضا

الإثنين 2020/06/22
لم يستطع نقيب المحامين، ملحم خلف، إمساك العصا من وسطها في بلد الانقسام العمودي. لا مجال للوسطية الآن، في معركة الصراع بين شعب لم يبق له الا الشتيمة لمواجهة السلطة، فإحراجها، وبين سلطة التقطت أنفاسها، وعَبَرَت فوق الشتيمة والاحتجاج لاستئناف الحكم، قبل أن تلتفّ على مطالب المحتجين بتجريم الشتيمة.. وقدّم لها خلف أخيراً المؤازرة لتعزيز موقفها. 
والمؤازرة لرأي السلطة بتجريم الشتيمة في مختلف المنصات، لا سيما مواقع التواصل الاجتماعي، تأتي من نقيب وصل الى موقعه بقوة الثورة التي أسقطت الرموز في الشارع، بكسر هالتهم بالسباب كما بسائر التحركات الثورية، ودفعت السياسيين الى الانكفاء خوفاً من المحاسبة، أو دفعاً للشتيمة في الشارع التي هشّمت صورة السياسيين وأذلتهم، بعدما أذلّوا الناس، وبددوا -مع المصارف وم"مصرف لبنان"- جنى الأعمار. 


لطالما اعتبرته الثورة، منذ انتخابه نقيباً للمحامين، سنداً لها. حضر ومجموعة محاميه في قصور العدل، وفي مراكز التوقيف الأمنية. أخرج موقوفين، ودافع عن آخرين. وأطلق ورشة لتحسين ظروف السجناء... تمت أسطرة صورته كنقيب للثورة، ومدافعاً عن حرية التعبير بالاحتجاج، وحرية التعبير عن الرأي. وبسبب هذه الصورة، سُئل عنه في أحداث وقعت، وتوقيفات حصلت. كان السؤال يتردد في مجموعات "الواتسآب" وفي منصات التواصل الاجتماعي: "أين نقيب المحامين؟"

والسؤال كان استفسارياً. فأداؤه طوال أشهر، لم يدفع إلى الشك بأن النقيب انكفأ مثلاً، أو له وجهة نظر أخرى. لكن هذا الاستفسار، حوّله خلف الى استفهام وارتياب، لدى إعلانه موقفاً مخالفاً لرأي الغالبية الثائرة، لجهة "الطلب الأبويّ" من المحتجين الابتعاد عن الشتيمة، على طريقة "مش هيك تربّينا". الشتيمة، تلك الوسيلة الوحيدة التي يستخدمها المحتجون لفش الخلق أولاً، ثم الضغط على السلطة، على الأقل بتفكيك هالات الزعامات، وعلى قاعدة "أحرجهم فيخرجون"، أو "أحرجهم فيصلحون ولا يفسدون"، ولو بالحد الأدنى. علماً أن شتيمة السلطة هي التعبير المتاح في مواجهة الفاسدين، وهو حق تكفله مواثيق دولية. 



تعرض خلف للإنتقاد. وشعر كثيرون بأن رهانهم عليه، لم يكن في محله. وظهرت الشكوك حول هذا الموقف المفاجئ وشرّعت الأسئلة، استناداً الى تراكمات وخيبات: "هل دجّنت السلطة نقابة المحامين مثلما دجّنت نقابات أخرى؟"

قد يكون هذا الشك مبالغاً فيه، لأن النقابة، تاريخياً، تتدخل في المفاصل التاريخية في لبنان. هي الجسم القانوني الرديف لصياغة شرائع الدولة وقوانينها واتفاقياتها، ولعلها برلمان الظل لناحية التشريع، أو يفترض أن تكون كذلك، بالنظر إلى أن معظم المشرعين في البرلمان هم محامون.  

والنقابة التي تحتفل بمئويتها، اضطلعت بدور سيادي وحقوقي منذ الانتداب الفرنسي، وكان لها الدور الأساس في توفير ضمانة قانونية لنضال سياسي أثمر استقلالاً في العام 1943، وحماية لوحدة القرار الوطني في العام 1975 إثر اندلاع الحرب اللبنانية، وبالتحرك ضمن الأطر القانونية لمواجهة الغزو الإسرائيلي في العام 1982 ولفك الحصار عن العاصمة، وصولاً الى حماية قيم الحرية والديموقراطية والانفتاح. وقد تكون نقابة المحامين، الوحيدة بين النقابات التي تتمتع باستقلالية كبيرة جداً عن السلطة، خلافاً لنقابات أخرى احتوت السلطة نشاطها خلال السنوات الثلاثين الماضية.

لذلك، فإن الموقف الصادر عن خلف، مفاجئ، ولو أنه له حسابات أخرى مرتبطة بالحسابات الداخلية. فإلى جانب دور النقابة كركن اساس في حماية هيكلية النظام القائمة على المناصفة، وتساهم قانوناً في تعزيز صياغة العيش المشترك في بلد هشّ من ناحية التوازنات الطائفية فيه، لن تتردد النقابة في حماية التوازنات والمواقع المحسوبة على الطوائف، منعاً لتهشيمها. 

فالنقاش الدائر منذ ثلاث سنوات في الصراعات السياسية، يطاول صلاحيات الرئاسات. وهو، إذ يتخطى مبدأ الشخص، فإن مصادرة صلاحيات تُعدّ مصادرة للموقع، بمعزل عن الشخص. كذلك حمايته، ومنع تطبيع الشتيمة، منعاً لإسقاط الموقع. ولنا في ذلك أمثالاً في تدخل البطريرك الماروني الراحل نصر الله صفير لمنع إسقاط الرئيس الأسبق اميل لحود في الشارع، حماية للموقع، وتدخل رؤساء الحكومات السابقين لمنع "التعدي على صلاحيات رئاسة الحكومة"، وتدخل البطريرك الماروني بشارة الراعي لمنع إقالة حاكم مصرف لبنان. 

وفي الأسبوع الماضي، وُضِعَ خط أحمر لمنع المساس بموقع رئاسة الجمهورية، بمعنى إهانته. وتم استدعاء ناشطين على هذه الخلفية. لذلك، احتُسب بيان النقيب خلف على هذه الفرضية "الرئاسية"، لناحية التوقيت، وهو مثار اعتراض الناشطين، لأنه "يفرض خطوطاً حُمر رمزية"، ويعطي، من موقعه كنقيب للمحامين، فتوى معنوية لمنع الشتيمة بما هي حرية تعبير، وبالتالي منع تطبيع السلوك، بغرض حماية المواقع. مع أن جمهور التيار الوطني الحر هاجمه أيضاً مساء الأحد تحت هاشتاغ "ملحم خلف فِلّ"، ولم تسعفه فتواه في كسب ودّ العونيين. 

ومثار الاعتراض الثوري، أن خلف لم يحدّد فتواه في إطار معين، كالمساس بالرئاسة أو بمواقع محددة. تركها عامة حمّالة أوجه، ما يدفع للسؤال: إذا كان القانون يمنع التطاول على الرئاسة، فماذا عن السياسيين الآخرين؟ وهل يحميهم بتعميم الفتوى/المناشدة؟

قدّم خلف الطلب على شكل تمنٍ أقرب الى كونه قواعد سلوك أخلاقية. ما يعني بالشكل، أنه رأي غير ملزم بطبيعة الحال. غير أن النظر اليه من منظار تجربته طوال الأشهر الماضية، ومن موقعه الحقوقي والقانوني، فإن صيغته تكتسب بُعداً آخر، وهو ما دفع كثيرون الى اعتبار ما قاله "سقطة" كان في الإمكان تجنّبها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024