مَن يُنزل الغول من عليائه يا حجّة؟

بو ناصر الطفار

الثلاثاء 2019/11/26

تكرّر جدّتي القول بلهجتها المحبّبة: "اللي طلَّع الجحش عالمَيدَنة ينزّله".
لكن من سيُنزل الغول الأسود من عليائه يا حجّة؟ من سيطرده من بيتنا الذي استباحه وأطفأ نوره وأرخي بثقله على قلوب ساكنيه، وأغرقهم بالانتصارات الموهومة وبحر الفحولة والاستعلاء؟

نزع الغول بيده العملاقة لافتة الترحيب بالضيوف على بابنا، واستبدلها براية سوداء مهيبة. كتم ضحكات نساء البيت وأحرق ثيابهن الملوّنة وصبّهن في قالب تماثل أسود. طحن أشرطة الأغاني والأعراس، واستبدلها بأناشيد الولاء الرتيبة الباهتة والمآتم المستمرّة إلى الأبد، لا تكاد تجفّ دمعة أمّ على فقيدها حتّى تكرّ دمعة أخرى. محى خربشات الأطفال عن جدران البيوت وخطّ مكانها الأوامر بالجهاد والقتال، استبدل الألعاب بالبنادق. سحب الطلاب من مقاعد الدراسة إلى الجبهات أكياسَ رملٍ تحميه. سحب صُور الشباب الفرحة من ألبومات الصور العائلية، وعلّقها على أعمدة الكهرباء شهداء بوجوه بلا ملامح. ربط أمعاءنا الفارغة بحبلٍ من جهنّم، يجوّعنا شهورًا لنركع له، ويرمي لنا الفتات يومًا لندعو له بطول العمر.

لا يدافع الغول فقط عن سياسات تجويعنا، بل إنّ استمراره رهن بهذا الجوع والحرمان. هل كان في إمكانه تجنيد عشرات الآلاف للموت طوعًا ضمن صفوفه، لو كانت فرص العمل والبدائل الطبيعية متوفّرة لنا؟ هل كان في إمكانه غسل أدمغتنا في وجود مدارس وجامعات ونظام تربويّ وطنيّ متحضّر؟ هل كان في إمكانه حشد مئات آلاف الجوعى منّا لترداد شعارات الاستعداد للموت، لولا تحريضنا منذ نعومة أظافرنا على كلّ مختلف وتصويره لنا وحشًا يريد ذبحنا، وتربيتنا على فكرة أننا شعب الله المختار؟ هل كان في إمكانه شراء أرواحنا الحرّة لقاء زيجةٍ وبيتٍ وبضع عفشٍ، لو لم تكن هذه البديهيّات هي سقف طموحنا وتعريفنا للمستقبل الآمن؟

هذه أيّام خروجنا من الظلمة إلى النور، النور الذي يخافه الغول وكلّ أشباهه. نأكل أصفاد عبوديّتنا الفولاذيّة بأسناننا الطريّة، نضرب بلَحمنا الحيّ أسوار العشيرة والمذهب الصلبة، نعضّ على جراحنا وآلامنا، منتظرين صباحًا أكيدًا لا مفرّ منه، صباح حريّتنا.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024