السبت 2025/06/07

آخر تحديث: 08:37 (بيروت)

لماذا يحب اللبناني جرحه أكثر من نجاته؟

السبت 2025/06/07
لماذا يحب اللبناني جرحه أكثر من نجاته؟
أصبحنا أكثر تصالحًا مع شروط البقاء في واقع غير قابل للإصلاح (Getty)
increase حجم الخط decrease

نحن لا نعيش في المأساة، بل نعيش منها. نُعيد تدويرها في الأغاني، نختزل الكارثة في نكتة، والمأساة في منشور ساخر، والخراب في صورة شاعرية، كمن يبني من أنقاضه نصبًا تذكاريًا، ثم يسجد له كل صباح. الكارثة ليست حدثًا نخشاه، بل طقسًا نمارسه. نختنق، لكن بأناقة. نكره واقعنا، لكننا نحنّ إليه. نهاجر هرباً، ثم نعود في الصيف لنعيد تكريس الخراب على شكل مهرجان.

يتفق ألبير كامو، وأميل سيوران، وسلافوي جيجك، على أن أخطر ما يمكن أن يصيب الإنسان ليس المأساة بحد ذاتها، بل اعتياده عليها، وتأقلمه معها، واستبطانه لآليات بقائه فيها. هذا التأقلم لا يُنقذ، بل يدفع الفرد إلى الضياع والوهم والتشرد. هكذا يغدو التكيف مع الكارثة خيانة ناعمة للذات، ومشروعًا ثقافيًا-سياسيًا كاملاً، يتوغّل في الهوية والمخيال الجماعي. إننا، بإصرارنا المزمن على "رؤية النور في آخر النفق"، نبني النفق ذاته.

الجمالية كستار للشلل
في علم النفس السياسي، تُعتبر القدرة الجماعية على تأويل المأساة بشكل جمالي مؤشّرًا على نضج وجداني في لحظة ما، لكنها قد تتحوّل مع الزمن إلى قيد إبستمولوجي، وقناعًا يحجب هشاشة بنيوية، وعجزًا عن ملامسة جوهر الانهيار ومواجهته. مع تفشّي الرداءة السطحية في وسائل التواصل الاجتماعي، والتبسيط المفرط للمآسي، وتحويل الضحك إلى آلية تفريغ لا مقاومة، أصبحنا أكثر تصالحًا مع شروط البقاء في واقع غير قابل للإصلاح.

يتباهى اللبناني، عن حق، بقدرته على العيش تحت كل الظروف. لكنه بهذا التباهي ذاته، يمنح الشرعية لبقاء تلك الظروف. يتبنّى خطابًا مزدوجًا: احتقار للواقع وحنين ضمني إليه. نحن لا نحتجّ لأننا نعتقد أن الانهيار قدر، ونبرر استمرار القبح باسم التعايش معه. انقطاع الكهرباء، مثالاً لا حصراً، تحوّل من فضيحة وطنية الى تكيّف بدا أولًا شكلًا من أشكال الصبر، تحوّل مع الوقت إلى قبول ضمني بأن الدولة لا تملك واجب الإنارة ولا المواطن حق الضوء.

الإعلام كراوٍ رسمي للهزيمة "الجميلة"
ما يعمّق هذه الأزمة الوجودية الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في تلميع الكارثة وتطبيع الإخفاق. فالإعلام اللبناني، في كثير من خطاباته، ناطق رسمي باسم الخراب المزيّن لا يضوي على الكارثة بل يُعيد تدوير حكايات "الصمود" و"الاستثنائية اللبنانية" بأسلوب دعائي يشبه الفولكلور.. هكذا تتحوّل الرواية الإعلامية من أداة مساءلة إلى آلة إنعاش لأساطير وطنية تُجسّد الفشل بوصفه بطولة. بل إننا أصبحنا نُعيد إنتاج ميثولوجيا خاصة بـ"اللبناني الذي ينهض دائمًا"، مع إغفال أن هذا النهوض دائمًا ما يكون فرديًا، عشوائيًا، وبلا أثر تراكمي. وهذا ما يجعلنا نعيش في حلقة دائمة من الصمود من دون تغيير.

اقتصاد المراسم وتطبيع الأزمة
إلى جانب الإعلام، ثمة أدوات رمزية أخرى تُسهم بفعالية في تأبيد الأزمة بدل الخروج منها: المهرجانات السياحية، عودة المغتربين، الاحتفالات الموسمية، و"الفرح اللبناني رغم كل شيء". كل صيف، نحتفل بقدوم آلاف اللبنانيين من الاغتراب وكأنها معجزة، ونقيم المهرجانات في مناطق بلا كهرباء أو ماء، ونغنّي للفرح من قلب الخراب. لكن هذه الطقوس، رغم دفئها الظاهري، باتت تشكّل أوكسيجينًا رمزيًا للأزمة: جرعة تخدير جماعي تمدّد عمر الانهيار، بدل أن تقطع أوصاله.

نُحوّل السياحة والموسم إلى طقس من الإنكار، إلى نوع من "الاحتفال بالمرونة" بدل مساءلة الظروف التي تجعل من مجرد البقاء في لبنان حدثًا استثنائيًا. وهكذا يُعاد إنتاج خطاب "نحنا منعيش رغم كل شي"، بدل أن يُطرح سؤال: لماذا أصلًا نعيش في هذا "الشي"؟  الحقيقة الصلبة: نحن لا ننهض. نحن نُخدَّر. وهكذا نُغرق أنفسنا في مهرجانات في بلد بلا بنية تحتية، ونغنّي للفرح في بلد يتهاوى. نستهلك الاحتفالات كما نستهلك الأوهام، كما لو أن النجاة، في لاوعينا، تشكّل تهديدًا للنظام العاطفي الذي بنيناه حول الفشل: نظام قائم على البكاء المتحضّر، والسخرية المتقنة، والقدرة على العيش في الحطام من دون طلب الخروج منه.

نحب جرحنا، لأننا نُعرّف أنفسنا من خلاله. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها