وبين الهزيمة "الأمّ"، والهزيمة "البنت" مسار تراجع عربي حصيلته الراهنة، تقهقرٌ على كافة المستويات المجتمعية العربية، وخوف ملموس من بلوغ عتبة هزيمة ثالثة، انطلاقاً من فلسطين، وتمدّداً على مجمل المساحات العربية.
وَصْفُ واقع الحال بالجُملَة، لا يفضي إلى اقتراح بالجملة، ذلك أن زمن الشعارية العربية قد وَلّى، وزمن الشعارية الوطنية الداخلية مزّقته عناصر اللاكيانية في أكثر من كيان. ثمّة محاولات استدراك متفرقة، عمادها مناطقي عربي، مثل ما هو موجود في منطقة الخليج العربي حصراً، مع غياب تامٍ للصعيد العربي المشرقي، وللصعيد العربي المغربي، وللصعيد العربي الإفريقي. لقد فقدت "العربيّة" عواصم ارتكازها المركزية، ومع غياب العواصم هذه، تقدمت عناوين مركزية جديدة، قوامها عوامل قوة تكاد تكون شبه وحيدة، يلخّصها عامل القدرة الاقتصادية، الذي يتقدّم على مختلف العوامل المحليّة الباقية.
والحال، فإن النقاش قد ارتدّ إلى محليّاته، والتنسيق بين المحليّات المتعدّدة، ارتدّ هو الآخر، إلى الأساسي من ضروراته، بكلمات: آل التضامن العربي من الشعارية إلى الاستنسابية، وبات التفاهم الضروري مقايضة "بالقطعة"، خصوصاً في المجالات الأمنية والتجارية... هكذا تابع "العرب" حكّاماً ومحكومين، مسارات "الربيع العربي" المتفرقة، وهكذا واكبوا الخراب الذي حلّ ببلادٍ عربية أساسية، مثل العراق وسوريا وليبيا والسودان، وهكذا يديرون علاقاتهم مع فلسطين اليوم، حيث تقتلع غزّة، وحيث الضفة الغربية المحتلّة مهدّدة جديّاً، بأخطار "الاقتطاع" أو الاقتلاع.
عودة إلى المحليّ اللبناني، للقول: إن الحاضر على منابر السياسة اليوم، عنوان سلاحين، الأول لبناني والثاني فلسطيني. الفصل بين العنوانين كان مطروحاً ذات يوم لبناني بعيد، وكانت له "ديباجته" التضامنية التحرّرية التي أنزلت فلسطين منزلة صدارة القضايا العربية.
الفصل معروض بحيوية اليوم، مع تقدّم المبرّرات الوازنة الكثيرة التي تجتهد ضد تفسيرات "النضالية" المسلّحة، التي فقدت الأساسي من جوهرها القومي، عربيّاً، واستدعت الملحّ والضروري من جوهرها الوطني المحلي، على الصعيدين اللبناني والفلسطيني، وذهبت مباشرة إلى معاينة الضرورات التي فرضت واقعها مصالح فورية، لا يمكن الفرار من موجبات نقاشها، مثلما لا يمكن النقوص دون مسألة اقتراح مفاتيح معالجتها.
المستجدّ في لبنان، موضوع السلاح الفلسطيني في المخيمات، هو مستجدّ لجهة الإلحاح عليه، في هذه اللحظة اللبنانية، لكنه ليس موضوعاً جديداً، بل هو قديمٌ قِدَم المقدّمات الباكرة للحرب الأهلية اللبنانية.
السياق اللبناني لنقاش التسلّح الفلسطيني، هو نقاش الدولة اللبنانية لاستعادة سيطرتها على كل أرضها الوطنية، واستعادة مرجعيتها الحصرية في امتلاك قرار الأمن وقرار الحرب والسلم واستعادته، من كل الأيدي الخارجيّة.
لكن لماذا الآن؟ هذا لأن الموضوع بَلَغ موسم قطافه الذي تأخّر طويلاً، وكان من عناصر هذا "الطول" تداخل الحدث اللبناني مع تداخل الواقع الفلسطيني في محطات سياسية عديدة. من هذه المحطّات التأخيرية، اجتياح لبنان سنة 1982، وانطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية إلى مقاتلة الاحتلال. كان السلاح الفلسطيني عامل مؤازرة للمقاتلين اللبنانيين، وقد حصل ذلك بسريّة تامة، وبسياسة تدرك مسؤوليتها عن ضرورة الاختفاء خلف الجهد القتالي اللبناني. لنقل إن تلك الحقبة كانت حقبة إدارة "وضع" استمر حتى سنة 2000، عندما خرج العدو من الأراضي المحتلة.
هذا في التداخل اللبناني- الفلسطيني، أمّا في "التخارج" على هذا الصعيد، فيجب القول إن لحظة السماح الذي طال، قد كان مفصليّاً في تناقص "الساعة الرملية". خروج القيادة الفلسطينية، مع قواتها، من العاصمة اللبنانية. خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، رسميّاً، كان سهم الدلالة الأول صوب مسالك "القطاف". وتوقيع اتفاقية أوسلو كان السهم الثاني، أمّا الدخول "الإسلامي السياسي" على خط استعادة الكفاح المسلح، فلم يكن أكثر من عامل تأخيري، احتضنه الوضع الداخلي اللبناني من خلال "الجوّ المقاوم" اللبناني، الذي ثابر على التمسك بقراءته التحريرية، وأضاف إليه الانشقاق الذي أطاح بغزّة في نهاية المطاف، وها هو يلامس الإطاحة بما كان للفلسطينيين من بقايا أمل في الحصول على "مساحة" وطنية مستقلّة.
الخروج الفلسطيني كان عنوان هزيمة النسخة النضالية المسلّحة. وعد الدولة المستقلّة، كان تعويضاً فرضته كفاحية الانتفاضة الفلسطينية، وأحكام الموازين العالمية. اليوم، وتباعاً، ينحو المسار الفلسطيني مسار "هزيمة" ثالثة صنعها هو، فوق ما تحرّر من أرضه. لذلك تبادر "الدولة" اللبنانية إلى حوار حول سلاح خارجي استنفد جدواه، بعد أن فقد سلاح الداخل معناه، ويبقى السؤال، هل يُقَزّم الوجود الفلسطيني في لبنان حتى يصبح معادلاً لعدد بنادقه؟ الجواب على ذلك نفي قاطع، والجواب دعوة واضحة إلى الخوض في نقاش منفتح تضامني و"احتضاني"، لحاجات الشعب الفلسطيني التي تجمع بين السياسي والاقتصادي والحقوقي والإنساني، ولنقل إن هكذا نقاش، يليق بفهم اللبنانيين، مثلما يليق بالدعوة "الرسالية" اللبنانية، ويتواءم مع كل التضحيات التي قدّمها اللبنانيون، في السياسة وفي الميدان، دفاعاً عن حقَّ الشعب الفلسطيني في الدولة وفي الحرية وفي الاستقلال وفي العيش الكريم.
يشترك السلاح اللبناني مع السلاح الفلسطيني في "فذلكة" إنشاء بنيته، ويشاركه مبرّرات ومسوّغات ممارسته القتالية. يجب التنويه في هذا المقام، أن أصل نشأة طليعة القتال اللبناني كان أصلاً فلسطينياً. والسبب الذي دفع الفلسطيني إلى القتال هو السبب ذاته الذي دفع اللبناني إلى الميدان. شعار التحرير كان شعاراً قوميّاً عربياً، وكان شعاراً ناصرياً، وصار شعاراً "شيوعياً". إذن كان التحرير جسر الجمع بين السلاحين اللبناني والفلسطيني، لذلك طال عمر السلاح اللبناني إلى تاريخه، مرّة بقوة الواقع، أي بقوّة واقع احتلال الأرض اللبنانية، ومرّة بالاستقواء على الواقع بعد أن تداخل القرار القتالي اللبناني مع سياسات الدول التي رَعَتْه طويلاً، وهنا نخص بالذكر من هو معلوم، سوريا قبل خرابها، وإيران التي تعمل جاهدة للنجاة من هذا الخراب.
من دون إطالة الوقوف أمام موضوع سلاح "المقاومة الإسلامية" اللبنانية، تجدر الإشارة إلى السياسة الأنجع وطنياً، أي تلك التي تدعو إلى تشكيل احتياط القتال الدفاعي بعد أن وصل البلد إلى ما هو معلوم من واقع الحال، ولأن الخطر الإسرائيلي سيظلّ قائماً ما دامت الشخصية الوطنية الفلسطينية محرومة من عناصر قيامها في إطار دولتي محدّد المعالم السياسية والجغرافية.
في سياق الهزيمة العربية الطويل، جُلّ ما يقع في مجال القدرة اللبنانية هو الانضمام الآن إلى حصيلة التوازن العربي مع الخارج، بحيث تتوفر أسباب انحناء "القصب" الدولتي من دون انكساره.
نرغب في النجاة من هزيمة مدوّية ثالثة، يؤسّس لها فوق الأرض الفلسطينية، بقتل ماديّ مباشر ممنهج، ويمهّد لتداعياتها، التي قد تباشر قتلاً مجتمعياً ووطنيّاً، وسياسياً ودولتياً... بأشكال ممنهجة التفافية باردة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها