كان مشهداً دالاً، وواضحاً، وكاشفاً، ذاك الذي تمثل بـ"الكبسة" أو الزيارة الصباحية التي نفذها رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، إلى مبنى مصلحة النافعة، في الدكوانة في بداية شهر نيسان الماضي، برفقة وزير الداخلية أحمد الحجار. حيث تفقد أعمال هذه المؤسسة المزعجة، والمقلقة والنموذجية و"الطالعة ريحتها" من حالة الفساد والإفساد والاستعصاء على الإصلاح والانضباط والاستقامة.
فبعد أن جال في المؤسسة، واطلع على سير أعمالها، تحدث إلى الموظفين والمواطنين المتواجدين هناك قائلاً "الساكت عن الفساد هو مثل المشارك فيه، أنتم هنا عيوننا، مطلوب منكم (يقصد المواطنين والموظفين)، أن تبلغونا، أنا أو وزير الداخلية بأي تصرف فاسد ونحن نحاسب"...إلخ.
بطبيعة الحال، فإن مبادرة رئيس الجمهورية تلك، كانت إيجابية وجيدة، وهي حملت إلى المواطنين والراي العام، رسائل متعددة، أولها أن عهدا جديداً قد انطلق، في لبنان، وأن رئيس الجمهورية يحمل توجهات واهتمامات مختلفة عن غيره، وهو ساع للتطوير والاهتمام بشؤون المواطنين وتجاوز الماضي وممارساته.
لكن كلامه في الوقت عينه، كشف أسلوبه ورغبته، وطريقة تفكيره وتعاطيه تجاه الأمور، بقوله "أنتم عيوننا، إذا صادفتم أي مخالفة أو محاولة فساد اتصلوا بنا ونحن نحاسب"!
ما من شك، أن هذا الأسلوب يستهوي الكثير من المواطنين، الذين عانوا وخضعوا للمحسوبيات والفساد والترهل والإهمال، وعدم الاستماع إلى شكواهم وهمومهم وتلبية مطالبهم.
لكن رئيس الجمهورية طيب النية والتوجه، والمتحمس لتسجيل تغيير عما كانت عليه الأوضاع، وخصوصاً المؤسسات المترهلة، لم ينتبه أن أمور الدولة والمؤسسات، لا تدار بطريقة شخصية، عن طريق متابعة ومراقبة "العسس" والعيون والاتصالات والإبلاغ عن المخالفات والتجاوزات.
كما فات رئيس الجمهورية، في هذه المبادرة الإيجابية، أن تحديث الأنظمة وتعديل طريقة العمل كافية لقطع طريق ممارسات الفساد والإفساد.
بمعنى أخر، فإن قسماً كبيراً من الفساد المنتشر، في النافعة وغيرها من المؤسسات، لا يتعلق فقط بـ"الجوارير المفتوحة"، التي تجمع وتوضع بها غلة اليوم من الخوات التابعة للسماسرة، ومن ثم يتم توزيعها على بعض المنتفعين وبعض الموظفين وأصحاب النفوذ.
الأمور أبعد من المسائل الشخصية المباشرة، وأعمق من هذه الطرق التقليدية للنهب والإفساد، الموجودة والمنتشرة في الإدارة اللبنانية.
المسألة تتعلق بتحديث الأنظمة، القادرة على ضرب وتدمير ممارسات وعادات الفساد، ومحاصرة القسم الكبير منها.
رئيس الجمهورية الطيب النية، والصادق في مسعاه، والمندفع في أحيان كثيرة بطريقة مضرة به وبمحاولاته للتقدم والعمل بطريقة جديدة.. بحاجة إلى تواؤم مع طرق وقوانين وأعراف ممارسة المسؤولية الدستورية والسياسية، لموقع رئيس الدولة.
المشهد الثاني، الذي يستدعي التأمل، والتوقف أمامه، هو ما كان بعد زيارة الرئيس عون إلى الإمارات العربية المتحدة، واجتماعه مع رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، والذي نتج عنها قرار مهم جداً، وهو السماح بسفر الرعايا والمواطنين الإماراتيين إلى لبنان بعد طول انقطاع ومقاطعة وإحجام.
والواقع، إن هذا القرار يعد من أهم القرارات على مستوى إعادة الثقة بلبنان، وإعادة إطلاقه كوجهة سياحية عربية، بعد أن حولته ممارسات محور وعصبة إيران المشهودة والمعروفة، إلى دولة توازي في الأهمية والسمعة السياحية أفغانستان أو الصومال.
لكن الذي يدعو للتوقف أمامه، هو رد فعل رئيس الجمهورية على القرار وطريقة تصرفه.
إذ أوفد وزير الإعلام بول مرقص إلى المطار، لاستقبال أول الزوار، وسط توزيع الورود والبقلاوة، مع هبوط أول طائرة آتية من الإمارات، مع إصرار على إرفاق الخبر في كل وسائل الإعلام، بلازمة تقول وبإصرار، أن وزير الإعلام حضر إلى المطار ممثلاً رئيس الجمهورية!
هنا يطرح السؤال الطبيعي، لماذا وزير الإعلام، وليس وزيرة السياحة المعنية بالأمر؟ وهل أصبح الوزراء وفق هذا التصنيف، منهم من يمثل رئيس الجمهورية ومنهم من يمثل الحكومة صاحبة السلطة الإجرائية؟!
الدستور في مقدمته، التي صيغت نتيجة معاناة طويلة في لبنان، تنص في الفقرة (ج) على ان "لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين من دون تمايز أو تفضيل".
هذا يعني، أن نظام لبنان ليس نظاماً رئاسياً أو فردياً أو ملكياً... بل نظام جمهوري ديمقراطي، يحترم الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها.
وقد تكون ثقافة رئيس الجمهورية العملية، كقائد للجيش، وممارسته في الخدمة العسكرية، التي تقوم على أولوية وأهمية "الوهرة" وحق الإمرة، والتبسيط والمباشرة والسرعة، قد فوتت عليه أن الدولة ومؤسساتها المدنية والدستورية، تختلف في أساليب عملها وطرق إدارتها عن قيادة القطع والفرق والوحدات العسكرية. وأنه انتقل من قيادة الجيش، إلى قيادة الدولة، في نظام برلماني ديمقراطي أساسه الدستور والقانون الدستوري، وليس العلاقات المباشرة الفردية والشخصية والسرعة والتسرع وتنفيذ الإمرة والتوجيهات.
كما أن الدستور الذي اصطفاه من بين كل المسؤولين وميزه عنهم، بقوله في المادة 49: "رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه"... يرأس المجلس الأعلى للدفاع، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء.
أما المادة 60 من الدستور، فقالت في بدايتها "لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلا عند خرقه الدستور أو في حال الخيانة العظمى".
أما المادة 65 فتقول: "تناط السلطة الإجرائية في مجلس الوزراء، وهو السلطة التي تخضع لها القوات المسلحة..".
بمعنى أخر، رئيس الجمهورية ليس مسؤولاً، ولا يمكن محاسبته، وليس لديه حسب الدستور صلاحيات تنفيذية ... لأنه بمثابة حكم فوق السلطات، ولا يحاسب من مجلس النواب، على عكس رئيس مجلس الوزراء، الذي يخضع للنقد والمحاسبة النيابية والسياسية، بصفته مسؤولاً ومطالباً من البرلمان والرأي العام، ومن الممكن حجب الثقة عنه وإسقاطه في مجلس النواب من قبل النواب. لكن في المقابل، فإن رئيس الجمهورية في النظام اللبناني لديه شركاء في ممارسة دوره في الحكم... وليس حاكماً منفرداً، لا قيود عليه، أو حدوداً تحوط سلطته وإرادته.
كان الرئيس عبد الحميد كرامي ثاني رئيس حكومة بعد الاستقلال، ووفق الدستور القديم، أول من انتبه إلى التناقض في وضعية رئيس الحكومة مع رئيس الجمهورية، فقدم استقالته من الحكومة شفهياً على باب مجلس النواب قائلاً، جملته الشهيرة: لا يمكن أن يستقيم أمر الحكم بين مسؤول لا يحكم وحاكم غير مسؤول".
المادة 53 من الدستور نفسه، تقول في فقرتها الرابعة، أن رئيس الجمهورية: "يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم".
ومناسبة هذا الحديث وهذه المقاربة الدستورية السياسية الآن، هي الطريقة التي باشر بها رئيس الجمهورية الجديد جوزاف عون عمله مع انطلاق عهده، والتي تدل على إخلاص واندفاع ورغبة ونية طيبة في الإنجاز والتطوير، لكن في الوقت عينه تحمل ميلاً أو عدم قدرة أو رغبة على مراعاة أحكام ومقتضيات الدستور المؤتمن عليه وعلى تنفيذه.
شكل الاجتماع الأمني الذي انعقد برئاسته في القصر الجمهوري، بحضور وزير الدفاع وقائد الجيش ومدير المخابرات والمستشار الأمني للرئيس (أهل البيت) بغياب رئيس مجلس الوزراء الدكتور نواف سلام، ووزير الداخلية أحمد الحجار، المعني مباشرة بالأوضاع والخطط الأمنية صدمة، أو "نقزة" خفيفة لدى كثر من المتابعين والمختصين وأهل السياسة والدستور.
وقد خصّص الاجتماع للبحث في الأوضاع الأمنية في البلاد، ولاسيما الوضع في الجنوب، في ضوء استمرار الاعتداءات الإسرائيلية التي تعرقل استكمال انتشار الجيش اللبناني.
ودرس المجتمعون حسب البيان الصادر، الإجراءات المتخذة لبدء تنفيذ سحب السلاح من المخيمات الفلسطينية في بيروت، وفق الاتفاق الذي تم التوصل إليه خلال زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى بيروت الأسبوع الماضي.
أين رئيس مجلس الوزراء، ووزير الداخلية؟ لماذا لم يشاركا في الاجتماع؟ ومن شجع رئيس الجمهورية على هذا الانزلاق والتسرع في شطب حضور الاخرين؟ وهم معنيون بالمسؤولية والمتابعة؟
في الواقع والمحصلة، لقد شبع لبنان هدراً للفرص الثمينة وتجارب دونكيشوتية شخصانية.
قد نكون نحن الدولة الوحيدة في المنطقة العربية، التي طورت دستوراً حضارياً نتيجة معاناة وصعوبات، وتجربة متقدمة في الحكم التشاركي والعيش المشترك والاعتراف المتبادل والاحترام بين المجموعات. ولذلك، ليس جائزاً تجريب المجرب ومحاولة التفرد والاستئثار والاستهتار بالاخرين، لأنه ساعتها لن تكون النتيجة سوى تكرار الفشل الذي حدث بالأمس غير البعيد.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها