مع دخول بلديات البقاع في مهل داهمة بالنسبة لتشكيل لوائحها الانتخابية، لم تحسم التوافقات التي يعمل عليها في بعض قرى المحافظة، حيث لا يزال النقاش قائما حول سبل تحقيق التوازنات، التي يعتبرها البعض أساسية لسحب فتيل المعارك الحامية ولا سيما في بلدية رياق – حوش حالا في قضاء زحلة.
تقاسم مقاعد البلدتين
البلدتان اللتان ستتقاسمان المقاعد البلدية بنسبة ثلثين لحوش حالا وثلث لرياق، بعد زيادتها من 15 مقعدا إلى 18، لم تتوصلا حتى الآن إلى تفاهمات نهائية حول شكل اللائحة ورئاستها. التعقيدات كثيرة، وتتداخل فيها التوازنات العائلية مع أعراف رئاسة البلدية، وحقوق كل بلدة منها، بالإضافة إلى السعي لمراعاة العوامل الطائفية، وخصوصا بظل التبدلات الديمغرافية. فأغلبية الناخبين في البلدتين على لوائح الشطب من المسيحيين. بينما الصوت المرجح على الأرض هو الناخب الشيعي، وخصوصاً في حوش حالا.
استقر عدد الترشيحات قبل فتح باب الانسحاب من المعركة ليل الأربعاء الخميس على 26 مرشحاً في حوش حالا 17 منهم مسيحيون وتسعة مسلمون. وبناء على أعراف الحصص السائدة يفترض أن تراعي أي لائحة ضم ستة أعضاء مسيحيين ومثلهم مسلمين. وترشح 14 شخصا في رياق ثمانية منهم مسيحيين وستة مسلمين، ويفترض أن تتشكل أي لائحة من أربع مرشحين مسيحيين واثنين مسلمين. ولكن بدلا من أن تؤدي زيادة عدد مقاعد المجلس البلدي إلى توسيع دائرة تمثيل العائلات من الطرفين زادت حدة النقاش الذي انحرف عن مسار تمثيل العائلات، وبات يتمحور حول حقوق الحفاظ على الأعراف في رئاسة البلدية.
أعراف سابقة
عرفيا يترأس بلدية رياق- حوش حالا مرشح من البلدة الثانية. ودرجت العادة أن يكون من آل معكرون، العائلة المسيحية الأكبر في البلدة، وتوافقت بشكل متين في الدورات السابقة مع الحليف الشيعي لتأمين معارك بلدية سهلة فازت بشبه تزكية. على أن تكون نيابة الرئاسة لمرشح من بلدة رياق الملاصقة.
لم تتوافق عائلة معكرون على مرشح لها للرئاسة خلال الدورة الحالية وترأس كل فرد من العائلة لائحة بوجه الأخرى في بداية المعركة، وسط تيار رافض من أبناء البلدتين، لفرض التوافقات الفوقية التي تسلب المسيحيين حقهم في اختيار ممثليهم بالمجلس البلدي. وترجم هذا الرفض من خلال تقديم مؤسس جمعية "تران تران" الياس المعلوف ترشيحه لرئاسة البلدية.
ولكن مشكلة المعلوف، أنه من رياق وبالتالي ترشيحه مخالف للعرف. وعليه لم يحظ المعلوف بتأييد التقليديين في حوش حالا، حتى لو كان لدى الشاب شغف تجاه بلدته وأرضه، جعله يتخلى عن مسار مهني ناجح بمجال صناعة الأفلام الوثائقية. وفضّل إعادة ضخ الحياة في حرفة جده بصناعة "خمور رياق"، التي يعمل على مأسستها بوسط رياق بنفس الشغف الذي رافقه في تأسيس جمعية "تران تران".
محاولات التوافق
قدم المعلوف ترشيحه فعلياً، فاشتد عصب أهالي حوش حالا وعائلاتها التي كانت قد عزفت عن الترشيحات. وعليه نجحت مناورة المعلوف في استنهاض الشارع المسيحي في حوش حالا، بعدما شعر هؤلاء أن بساط الرئاسة سيسحب من تحت أرجلهم، وبدأت البلدة تعيش في حالة غليان، للتأكيد على حقها بهذه الرئاسة.
قبل ساعات من اقفال باب الترشيحات خيضت جولات أخيرة من محاولات التوفيق بين الطرفين، انتهت إلى تسوية جديدة قضت بانسحاب كل من مرشحي آل معكرون في حوش حالا والياس المعلوف في رياق، ليبرز اسم القاضي فادي العنيسي كمرشح توافقي لرئاسة البلدية.
عكس طرح اسم العنيسي لرئاسة البلدية إيجابية ترجمت أحد نتائج المفاوضات التي خيضت، من دون أن يعني ذلك توجها لإعلان فوز لائحته بالتزكية. وكان يفترض بخلط الأوراق هذا أن يسحب فتيل المعركة الشرسة، التي لن تكون نتائجها مضمونة بالنسبة للحفاظ على الامتيازات المسيحية في بلدية رياق - حوش حالا. ولكن الأمور تعقدت مجددا، مع طرح إشكالية طائفة المرشح المارونية، بعد أجواء أشيعت بسحب هذا الإمتياز من اللائحة الكاثوليكية، وهو عرف لم يطبق سوى مع عائلة معكرون التي قدمت رئيسا كاثوليكيا للبلدة فيما كان الرئيس السابق أرثوذكسيا وفقا لما يؤكده مصدر معني بالإنتخابات في البلدة.
ولادة هذه التعقيدات واحدة تلو الأخرى تشيع أجواء مشككة في البلدتين، حول مخططات تجري لهيمنة ما على بلديتهما. وتعززها بعض الترشيحات التي يعتبرها الطرف المعني بالانتخابات أنها مشبوهة وتخبئ نيات مبيتة. ومن هنا يسود ترقب لافت في البلدتين لما ستؤول اليه الأمور التي باتت اليوم مفتوحة على خيارين متناقضين تماما. فإما أن تتشكل اللائحة التوافقية برئاسة القاضي العنيسي الذي يحظى بتأييد واسع في الأوساط المسيحية سواء في حوش حالا التي قدمته كمرشح أو في رياق، أو تذهب الأمور إلى معركة مفتوحة، لا يستبعد البعض أن تتسبب بخلل كبير في التمثيل لن تكون نتائجه مضمونة في المستقبل.
أهمية تاريخية للمنطقة
يذكر أخيرا أن الانتخابات البلدية في رياق- حوش حالا تكتسب أهميتها في منطقة البقاع، لأن البلدة لا تزال تعيش على أطلال أمجاد عرفتها يوم بنيت فيها سكة الحديد. وأصبحت محطة رياق والمصنع الأكبر الذي قام بجوارها، الحلقة التي تدور حولهما الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البقاع. عرفت المدينة عصرها الذهبي في بداية القرن الماضي، وبقيت تضج بالمسافرين العابرين أو الأوروبيين واللبنانيين المقيمين والذين انتقلوا ليعيشوا مع عائلاتهم إلى جانب مراكز عملهم، سواء في سكة التران، مصلحة الزراعة، أو المطار، الذي لم يكن قد تحول إلى مطار عسكري بعد. فولدت حول هذه المرافق حركة اقتصادية نشطة، ترافقت مع حركة سياحية استثنائية في المدينة، جذبت الاستثمارات في قطاعات المطاعم والمقاهي ودور السينما.
ثمة طموح قديم في البلدة أن تستثمر كل المرافق المذكورة كعوامل جذب تراثية- سياحية، لولا أن رياق خسرت هويتها مع صمت صفارات "التران" خلال الحروب الأهلية، ووقعت في حالة من الموت السريري تترجمه حالة قاطرات التران التي سُلمت لأشجار الزنزلخت.
خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، تعرضت بلدتا رياق وحوش حالا لاعتداءات متكررة. أكثرها إيلاما إلى جانب استشهاد أطفال خلال الغارات، كان الضرر الذي ألحقته أحدها بمدافن المسيحيين نتيجة استهداف مبنى ملاصق لها.
مع أن الاعتداءات الإسرائيلية رفعت من منسوب قلق الأهالي حينها من ذرائع إسرائيل بتخزين السلاح في أحياء سكنية مكتظة ومتنوعة بانتماءاتها الطائفية، فإن ذلك لم يؤثر على الروابط الاجتماعية بين مسيحيي البلدتين الذين لم يغادروا بيوتهم والشيعة. وعليه لا تظهر تداعيات هذا العدوان كعامل مؤثر في انتخاباتها البلدية، بل تتخفف التحضيرات لهذه الانتخابات من نوايا تحميل المسؤوليات، مع إصرار كل طرف على إبقاء النقاش في إطاره الإنمائي، والسعي لإشراك العائلات المسيحية بشكل أكثر فعالية في تقرير مصير بلدتهم للسنوات المقبلة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها