استغلّت المنظمّات المسلّحة الفلسطينية موقع لبنان الجيوسياسي وتركيبته الطوائفية وإنسانيّة الشعب اللبناني، لتعبث بسيادة لبنان معلنة حرباً ضدّ قواته الشرعية ولتسعّر نار الفتنة الطائفية تحت ستار مقاومة العدوّ الإسرائيلي. وصل الأمر بجعل الأراضي اللبنانية كموطنٍ ثانٍ للفلسطينيين لبناء دولة رديفة عبر تشريع حكم ذاتي وبناء دويلات ضمن دولة عبر إقرار اتفاق القاهرة في العام 1969.
مصير اتفاق القاهرة
استفاق زعماء البلاد جرّاء نتائج الحرب اللبنانية الكارثية بسبب السلاح الغريب، على أنّ السلاح الفلسطيني ليس سلاح المسلمين، وأنّ السلاح الإسرائيلي ليس سلاح المسيحيين. ففي 21 أيار من العام 1987 وبموجب القانون 25/1987، ألغى مجلس النواب اللبناني برئاسة السيّد حسين الحسيني اتفاق القاهرة واعتبره كأنّه لم يكن وساقطاً، كما، وفي الجلسة نفسها، ألغى القانون الصادر سنة 1983 والذي أجاز للحكومة إبرام اتفاق 17أيار. بالرغم من صدور هذا القانون التأسيسي، لم تنجح الحكومات المتعاقبة من تطبيقه لعدّة اعتبارات سياسية، أمنيّة وإقليميّة.
الطائف والسلاح الفلسطيني
لم يتطرّق اتفاق الطائف للسلاح الفلسطيني بشكل مباشر، بل حرّمه ضمن بند حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانيّة وتسليم أسلحتها للدولة. والأهمّ أنّ الطائف قد أطفأ مؤامرة التوطين، محاولة جديّة لإقفال مفاعيل اتفاق القاهرة عبر حظره التوطين والتقسيم والتجزئة، فقرة أصبحت في صلب مقدّمة الدستور. تمّ تفشيل تطبيق اتفاق الطائف، ولم تنجح الدولة ببسط سلطتها على كامل الأراضي اللبنانيّة، بل جاء التطبيق كيفي وانتقائي، أدّى إلى خلط أوراق سلاح الميليشيات من ضمنها السلاح الفلسطيني. تمّت إعادة تشريع السلاح الفلسطيني عبر تكليف إقليمي يؤدّي إلى تحويل التنظيمات الفلسطينيّة إلى ميليشيات "بروكسي" تابعة لأنظمة مناهضة "لإسرائيل"، لهدفين: بسط هيمنة أمنيّة داخل الأراضي اللبنانيةّ، وخلق منظومة لبنانية-فلسطينيّة لمقاومة العدوّ الإسرائيلي حصراً من الأراضي اللبنانيّة.
هذه الخطّة التي اندرجت خدمة لمشروع الوصايتين السورية والإيرانية، بُنيَت على مبدأ تفريع المنظّمات وتوزيعها جغرافياً ومرجعياً داخل وخارج المخيّمات. تمّ إفشال تطبيق وثيقة الوفاق الوطني لناحية بسط سلطة الدولة اللبنانية، فتمدّد النفوذ العسكري السوري، وتمّ تشريع أنشطة عدد من التنظيمات المسلّحة اللبنانية وغير اللبنانية من ضمنها الفلسطينيّة تحت عنوان مقاومة العدوّ الإسرائيلي. تطوّر الأمر، حتّى تحوّلت بعض الفصائل الفلسطينيّة مادّة للاستثمار من قبل بعض الأنظمة في المنطقة في النزاع المسلح في سوريا.
القرار 1559 أو قرار نزع السلاح
بالرغم من انسحاب الجيش السوري مرغماً في 26 نيسان 2005 تطبيقاً للقرار 1559 بعد عاصفة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لم تتأثّر الميليشيات المدعومة من نظام الأسد أكانت لبنانية أم فلسطينيّة، وتمّ إفشال تطبيق القرار 1559 لناحية مطالبته في فقرته التنفيذية الثالثة لناحية الدعوة حرفياً إلى "حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها". أكثر ما توصّلت إليه الدولة اللبنانية هو اتخاذ قرار عبر طاولة الحوار الوطني في 14 آذار 2006 بإنهاء وجود السلاح الفلسطيني خارج المخيّمات خلال ستّة أشهر. إلّا أنّ هذا القرار بقي حبراً على ورق بالرغم من صدور القرارين 1680 و1701 عن مجلس الأمن في العام 2006 الذي طالب بموجبهما تأكيد دعوته للتنفيذ التام لجميع متطلبات القرار 1559 وإلى بذل المزيد من الجهود لحلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها واستعادة سيطرة الحكومة اللبنانية الكاملة على جميع الأراضي اللبنانية وفق أحكام القرار 1559.
علاوةً على ذلك، إنّ مقدّمة إعلان وقف الأعمال العدائية والالتزامات ذات الصلة بشأن تعزيز الترتيبات الأمنيّة وتنفيذ قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 (ت2 2024)، تنصّ على تنفيذ بند "نزع سلاح كل الجماعات المسلحة في لبنان" على كافة الأراضي اللبنانية وفقاً للتنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن السابقة للقرار 1701 والصادرة بهذا الصدّد، إضافةً إلى أنّ المادّة 7 منه، تنصّ على أنّ نزع سلاح هذه الجماعات (كمسألتي تفكيك كافة المرافق القائمة والتي تشارك في إنتاج الأسلحة والعتاد ذي الصلة، ومسألة تفكيك كافة البنية الأساسية، والمواقع العسكرية، ومصادرة كافة الأسلحة) يجري بدءًا من منطقة جنوب الليطاني (Starting with the Southern Litani Area). وبالطبع هذا يشمل السلاح الفلسطيني، وينطبق بمرحلة أولى على السلاح الثقيل الموجود داخل ثلاث مخيّمات ضمن منطقة جنوب الليطاني، وبمرحلة ثانية على سلاح مخيّم عين الحلوة في الجنوب والمخيّمات المسلّحة الأخرى في بيروت والبقاع والشمال باستثناء مخيّم نهر البارد الخالي مبدئياً من السلاح.
إشكاليات نزع السلاح
إنّ تعدد التنظيمات والفصائل الفلسطينية المسلّحة في لبنان والتي تعدّى عددها الخمسة عشر، إضافةً إلى تعدّد مرجعياتها وارتباط بعضها بالمقاومة، يجعل مسألة نزع سلاحها إشكالياً، خصوصاً وأنّ البلاد بالغنى عن الوقوع في مستنقع وحول نهر بارد جديد. للأسف، إنّ بعض هذه التنظيمات يرتبط بتنظيمات إرهابية متطرّفة، وأنّ بعض المخيّمات تشكّل له ملاذاً آمناً لإدارة الخلايا النائمة التي بإمكانها تفجير الوضع على وقع التطورات الإقليميّة. فضلاً عن أنّ ذريعة الاحتفاظ بالسلاح بحجّة الدفاع عن النفس، هي غير مبنيّة، لسببين. ليس هناك جهة تسعى لقتل الفلسطينيين في لبنان، وأنّ الدولة اللبنانيّة هي المسؤولة عن حماية كافة الرعايا الأجانب على أراضيها. إنّ بعض الأسلحة الثقيلة، والأسلحة المتوسطة والأسلحة الخفيفة في المخيّمات تبيّن عدم مقدرتها على مقاومة "إسرائيل"، وبالتالي خطورة هذا السلاح إذا استعمل في الداخل. وتبعاً لهذه النظريّة، ماذا لو يطالب المهجرون السوريون في لبنان بالأمن الذاتي؟ على كلّ حال، لا يمكن أن يشكّل التمسّك بالسلاح داخل المخيّمات مادّة للمقايضة مع مكتسبات تتناقض مع الدستور اللبناني والقوانين اللبنانية ومناقضة لاتفاق الطائف. فالدولة اللبنانية هي من أولى الدّول في العالم المستضيفة للمهجرين والمهاجرين والتي تضمن حقوق الإنسان البديهيّة وعلى رأسها الكرامة الإنسانيّة.
نزح السلاح الفلسطيني في لبنان
إنّ تطبيق القانون رقم 25/1987 هو ملزم للدولة اللبنانية ويحتمّ اتخاذ تشريعات تنفيذيّة لنزع سلاح التنظيمات المسلّحة الفلسطينيّة، وهذا يحتّم بسط سلطة الدولة اللبنانية داخل المخيّمات، حيث لم يعد هناك أيّ مسوّغ لبقاء سلاح غير شرعيّ، إضافة إلى أنّه انتفت مبررّات وجوده لزوال مشغّليه أو لانكفائهم وعدم قدرتهم على الدعم بشتّى أنواعه. أمّا على مستوى الشرعية الدولية، فلبنان ملزم بتطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الطابع الإلزامي بموجب ميثاق الأمم المتحدة، بصرف النظر ما إذا كان العدوّ الإسرائيلي ينتهك هذه القرارات. إنّ موجب بسط سيادة الدولة، هو موجب سياديّ يجب أن يطبّق احتراماً للدستور اللبناني بصرف النظر ما إذا كان الأمر مطلباً أممياً.
إنّ السلاح الفلسطيني، أصبح يخدم العدوّ الاسرائيلي بحيث أنّه يشكّل ذريعة له لاستكمال عبثه بالسيادة اللبنانية وبقائه محتلاً لجزءٍ من الإقليم اللبناني، بحجّة ضمان أمن حدوده، في وقت أظهر السلاح الفلسطيني في لبنان فشله بالدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة وعجزه عن إسناد غزّة، بل نجح بعمليّة توريط المقاومة بحربٍ ضربت كيانه وصولاً إلى تسليم سلاحه في جنوب الجنوب. أصبح السلاح الفلسطيني ظاهرة مسيئة للرعايا الفلسطينيين في لبنان، حيث تحوّل سلاحاً ميليشياوياً لحماية المطلوبين من العدالة ولتأمين وتسهيل ارتكاب الجرائم غير المنظّمة. إنّ السلاح ليس عنصراً من عناصر كرامة الفلسطينيين، وحان الوقت لتصويب المسار، فخطّ الدفاع عن هذه القضية المقدّسة يجب أن يمرّ ببعض عواصم قرار العالم الإسلامي للحفاظ على ما تبقّى من قدسيّة القدس.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها