أشارت صحيفة "وول ستريت جورنال" في تحقيقٍ صحافيٍّ ترجمته "المدن" إلى أنّ الحكومة اللبنانيّة، بدعمٍ مباشر من الولايات المتّحدة، تسعى إلى استعادة السّيطرة الكاملة على مطار رفيق الحريري الدوليّ في بيروت. وأكّد التحقيق أنّ هذا المطار -المنفذ الجويّ التجاريّ الوحيد في البلاد- يقع وسط منطقةٍ مكتظّة جنوبيّ العاصمة تخضع بمعظمها لنفوذ "حزب الله"، وقد استُخدم طوال سنواتٍ قناةً لتهريب الأموال والعتاد ورافعةً لترسيخ هيمنة الحزب.
ووفق مسؤولين أمنيّين وعسكريّين لبنانيّين رفيعي المستوى، استُبعد عشرات الموظّفين المشتبَه في انتمائهم إلى "حزب الله"، فيما أعلن رئيس الحكومة نواف سلام توقيف مهرّبين وتطبيق القوانين النافذة بحزم. ويؤكّد أفراد من الطواقم الأرضيّة أنّ رؤساءهم لم يعودوا يوجّهونهم إلى إعفاء طائرات أو ركّاب من التفتيش، بينما عُلِّقت الرحلات القادمة من إيران منذ شباط الماضي. وتعمل الدولة أيضًا على تركيب منظومة مراقبة جديدة تدمج الذكاء الاصطناعي.
وتندرج هذه الإجراءات - وفق التقرير - ضمن خطةٍ أوسع لتقليص نفوذ الحزب ومصادر تمويله. ويقول سلام في المقابلة نفسها: "يمكنك أن تلمس الفارق؛ فنحن نحرز تقدّمًا في مكافحة التهريب للمرّة الأولى في التاريخ اللبنانيّ المعاصر". وقد جعلت حكومته انتزاع السّيطرة من الحزب أولويّةً قصوى.
يعتمد لبنان -المحاذي لإسرائيل وسوريا- على مطار بيروت بوصفه صلته الرئيسيّة بالعالم الخارجيّ. وحوّل نفوذ الحزب المتجذّر هناك هذا المرفق إلى هدفٍ محتملٍ لهجمات إسرائيل الّتي تشكو أنّ طهران تستغله لمدّ "حزب الله" بالمال والعتاد. في الوقت نفسه يحرز الجيش اللبناني تقدّمًا في تفكيك مواقع الحزب ومستودعات أسلحته جنوبيّ البلاد، التزامًا ببندٍ جوهريّ في اتفاق وقف إطلاق النار الموقَّع مع إسرائيل في تشرين الثاني 2024، بعد حملةٍ إسرائيليّة استمرّت شهرين وأسفرت، بحسب وزارة الصحة، عن مقتل آلاف اللبنانيّين.
أتاحت هذه الضربات والهدنة فرصةً للحكومة كي تعيد فرض سلطتها بعد سنواتٍ من هيمنة الحزب. فانتُخب رئيسٌ جديد للجمهوريّة مطلع العام الجاري بعد انسدادٍ سياسيٍّ طويل، وتُعزّز الدولة راهنًا قدرات الجيش أملًا في موازنة الحضور العسكريّ لـ"حزب الله". ويعبّر مسؤولون عسكريّون أميركيّون وإسرائيليّون عن رضا حَذِر حيال هذه الخطوات، مع تشديدهم على أنّ الطريق لا يزال طويلًا.
وقال مسؤول أميركيّ رفيع في اللجنة الدوليّة المشرفة على وقف إطلاق النار: "لم يمضِ سوى ستة أو سبعة أشهر، وقد بلغنا مرحلةً لم أكن لأتخيّلها في تشرين الثاني". وفي الأجواء، تُحلّق طائرتان إسرائيليّتان مُسيّرتان فوق بيروت بينما يشير موظّفو برج المراقبة إلى نقاطٍ على شاشة الرادار تفتقر إلى بياناتٍ تعريفيّة.
وكشف مسؤول أمنيّ كبير أنّ الأجهزة اللبنانيّة أحبطت مؤخّرًا محاولة تهريب أكثر من 23 كيلوغرامًا من الذهب إلى الحزب عبر المطار. ويُقِرّ أعضاء في "حزب الله" بأنّهم يواجهون صعوباتٍ متزايدة في استخدام هذا المنفذ لجلب الأموال. كما خسر الحزب خطوط تهريب أسلحته الرئيسة الممتدّة من إيران عبر سوريا بعد الإطاحة ببشار الأسد في كانون الأوّل 2024 وتشكيل حكومةٍ مناوئة لإيران والحزب في دمشق؛ وهو يكافح اليوم لتأمين التمويل اللازم لإعادة الإعمار ورعاية الجرحى وإعادة بناء قدراته العسكريّة.
وعلى الرغم من وقف إطلاق النار، واصلت إسرائيل استهداف ما تقول إنّه كوادر ومستودعات أسلحة للحزب، منفّذةً مئات الضربات داخل لبنان خلال الهدنة، فيما تحتفظ بقوّاتٍ في مواقع عدّة جنوبيّ البلاد. وأفادت قوّة "اليونيفيل" بتسجيل 19 حادثة إطلاق نار من لبنان باتجاه إسرائيل منذ بدء الاتفاق.
يُقرّ النائب عن الحزب إبراهيم الموسوي بالخسائر الجسيمة، قائلًا: "تلقّينا ضرباتٍ بالغة مع مقتل كوادرنا وقياداتنا وتدمير جزءٍ كبيرٍ من ترسانتنا"، لكنّه يشدّد على أنّ الجناح العسكريّ قادرٌ على إعادة التسلّح "متى توفّرت الإرادة". كان الموسوي يتحدّث من مكتبه الذي يبعد نحو ميل عن المطار، فيما كانت طائرة مُسيّرة إسرائيلية تحوم فوق مبانٍ تحوّلت إلى أنقاضٍ بفعل القصف.
ويرى خصوم الحزب أنّه حافظ طويلًا على نفوذٍ واسعٍ داخل المطار من خلال موظّفين موالين وكتلةٍ برلمانيّة ضخمة مكّنته من تعطيل الإصلاحات. ويعلّق النائب المعارض غسان حاصباني: "كان المطار منفذًا رئيسًا لدعم الأنشطة شبه الدولتيّة، وغُضَّ الطرف عن ذلك عمدًا؛ فمع انعدام الضغط الدولي لم يُنجَز الكثير". وفي شباط الماضي، تصدّى الجيش لمناصرين للحزب سدّوا الطرق المؤدية إلى المطار احتجاجًا على منع طائرة إيرانية من الهبوط، في مواجهةٍ عنيفة نادرة بين الطرفين. ويتساءل حاصباني: "هل تستطيع الحكومة اليوم أن تضمن سلامة أيّ زائر للمطار والطرق المؤدية إليه؟ هذا اختبارٌ حاسم؛ وشرطٌ لبعض الدول للسماح لمواطنيها بالسفر إلى لبنان".
بدوره يؤكّد "حزب الله" أنّ تقدير حجم سيطرته على المطار مبالغٌ فيه. ويقول الموسوي: "نحن جزءٌ من المنظومة، شأنَ أيّ مكوّن لبناني آخر".
من جانبه، يروّج رئيس الحكومة لافتتاح مطارٍ ثانٍ للرحلات التجاريّة والشحن في شمال لبنان قرب الحدود السوريّة، في منطقة تقع خارج نفوذ الحزب. ويُتوقَّع أن يدعم المشروع التنمية الاقتصاديّة ويشكِّل بديلًا إذا ما تعرّض مطار بيروت للقصف أو الإغلاق. ويقول سلام إنّ "حزب الله" كان يستخدم نفوذه سابقًا لمنع تشييده، مضيفًا: "اليوم تغيّرت الأمور".
وهكذا، عبر مروحةٍ متزامنة من الإجراءات -من تشديد الرقابة في المطار إلى تفكيك مواقع السلاح في الجنوب وإنشاء بديلٍ جويّ- تحاول الحكومة ترسيخ سلطة الدولة وتضييق الخناق على هيمنة الحزب، في مسارٍ يبدو طويلًا لكنّه يبعث على قدرٍ غير مسبوق من التفاؤل داخليًّا وخارجيًّا، وفق ما أشار التقرير.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها