تشكل انتخابات بلدية بيروت المقرر إجراؤها في 18 أيار 2025 محطة بالغة الأهمية في السياق اللبناني الراهن، إذ تمثل اختبارًا فعليًا قبل الاستحقاق النيابي المقبل، وسط تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. فالقوى السياسية التقليدية على ضفتي العاصمة، التي تعودت تقاسم السلطة، سعت إلى تشكيل لائحة انتخابية توافقية تحت عنوان الحفاظ على "المناصفة الطائفية" بين المسلمين والمسيحيين.
في مواجهة لائحة القوى الحزبية
شهدت الأسابيع الماضية لقاءات موسعة جمعت النائب فؤاد المخزومي والتيار الوطني الحر، وحزب القوات اللبنانية، وحزب الكتائب، وحزب الطاشناق، وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش)، إلى جانب الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل)، بهدف إعداد لائحة موحدة تضم ممثلين عن مختلف هذه القوى. اتفقت هذه القوى على اسم "بيروت بتجمعنا" للائحة وهي برئاسة إبراهيم زيدان (مقرب من مخزومي). ويعكس هذا التشكيل استمرارًا لنهج المحاصصة الطائفية في إدارة الشأن البلدي، ما يحد من إمكانية إحداث تغيير جذري في آليات الحكم المحلي في العاصمة، ويثير تساؤلات حول مدى قدرة هذه التحالفات الهجينة على تقديم رؤية واضحة وبرنامج إنمائي متماسك لمدينة تعاني من التهميش وسوء الإدارة.
في المقابل، يبرز دعم نواب التغيير والمجموعات الشبابية والسياسية وحزب الكتلة الوطنية للائحة "ائتلاف بيروت مدينتي" التي تخوض المعركة الانتخابية على قاعدة التغيير الجذري والابتعاد عن منطق المحاصصة. النائب ملحم خلف عبّر عن موقفه الداعم للائحة في حديث لـ"المدن" قائلاً: "في وجود هذه الوجوه الشبابية والكفاءات العالية، أرى أن هناك التزامًا حقيقيًا تجاه أهالي بيروت، التزامًا بالخدمة، والسير نحو تغيير جذري من خلال الممارسة الفعلية والمواجهة المطلوبة. من هذا الباب، يجب التركيز على قضايا النقل، والنظافة، والأرصفة. لقد تأثرت كثيرًا بكلام أمل الشريف، مرشحة من ذوي الهمم، حين قالت إن الناس أحيانًا يطلبون منها الابتعاد فقط لأنها لا تستطيع المشي على الرصيف، في حين من المفترض أن يكون الرصيف مؤهلاً لها. هذا الكلام سمعته بأذني، وعندما أرى أشخاصًا من هذا النوع يقدمون أنفسهم للخدمة العامة، فلا يسعني إلا أن أنحني أمامهم".
انتاج النموذج الحاكم نفسه
وتابع خلف قائلاً: "أما في ما يتعلق بموضوع المناصفة، فهل هو فعلاً حاجة؟ أعتقد أن وعي أهل بيروت لا يحتاج إلى من يعلّمهم ما يجب أن يفعلوه. إنهم يجسدون التنوع الذي لطالما شكّل الصورة الجميلة لبيروت، ولا أظن أنهم سيخذلون مدينتهم. نحن نعتز بهم، لأنهم يحافظون على صورة مدينتهم التي تعكسها بيروت للعالم بأسره. وعن التحالفات السياسية الغريبة التي نشهدها اليوم، أقول: يتحدثون عن خط مستقيم، لكنهم يستخدمون أدوات المنشار. من يريد أن يرسم خطًا مستقيمًا فعليًا، عليه أن يستخدم الأدوات الصحيحة، وما نشهده اليوم ليس إلا عودة إلى الأساليب القديمة نفسها".
من جانبه، رأى النائب إبراهيم منيمنة أن ما يجري اليوم هو إعادة إنتاج للنموذج نفسه، قائلاً: "ما نراه من تحالفات هو أمر مفتعل، لا يطرح شيئًا ملموسًا. في كل دول العالم تحصل تحالفات، لكن على أساس برنامج مشترك. أما نحن، فلدينا تحالفات لا نعلم ما الذي يجمعها. في لائحة بيروت مدينتي، نحن متفاهمون على برنامج واضح، ولن ندخل المجلس البلدي ثم نختلف في الداخل ونتوقف عن حضور الجلسات فيتعطل المجلس، كما يحصل دائمًا. هذا هو الفارق بيننا وبينهم. هم يغيّرون الوجوه لكنهم يحافظون على النهج ذاته. نحن نحاول أن نقدم بديلًا، ونقول للناس: يمكنكم الخروج من هذا النموذج القديم. المسؤولية باتت الآن على الناس".
وأضاف منيمنة أن التجربة الحالية قد تفتح الباب أمام تحالفات مستقبلية في الانتخابات النيابية المقبلة عام 2026، لكنها ستكون بطبيعة الحال معركة مختلفة. وفي ما يتعلق بصلاحيات المحافظ ورئيس البلدية، شدد على ضرورة إعادة النظر في منظومة الحوكمة برمّتها، معتبرًا أن العلاقة بين المدينة ومحيطها باتت عضوية، وتشمل قضايا النقل والتلوث والمياه والصحة والنسيج الاجتماعي والعمراني، ما يفرض حوكمة جديدة تراعي واقع مدينة يقطنها نحو مليون إلى مليون ونصف المليون نسمة. أما في ما يتعلق بالمناصفة، فأكد أنها من صميم العيش المشترك، لكن حين تُطرح بطريقة خاطئة تتحول إلى استقطاب طائفي يضر بالمصلحة العامة، داعيًا إلى نقاش حول كيفية إدارة المدينة بدلًا من الغرق في شعارات طائفية.
مشروع إنمائي واقتصادي
أما ميشال حلو، أمين عام حزب الكتلة الوطنية، فرأى "أن المعركة اليوم تدور بين من يملك مشروعًا واضحًا ومن لا يملك شيئًا سوى المحاصصة، وقال: "نحن نواجه ترتيبًا انتخابيًا لا يحمل رؤية ولا مشروعًا ولا مبادئ. في المقابل، نقدم مشروع بيروت مدينتي، وهو مشروع إنمائي واقتصادي يهدف إلى إعادة السكينة إلى بيروت، وإعادة الكرامة إلى البيارتة. نريد أن نعيش بسلام، أن نعمل ونتنقل ونحيا في بيروت بكرامة. المواجهة واضحة: نحن أصحاب مشروع، وهم أصحاب محاصصة. تحالفوا رغم تناقضاتهم، وهذا وحده دليل على غياب المشروع".
وأكد حلو أن المعركة ليست سهلة، قائلاً: "لا نملك المحادل الانتخابية ولا القدرة على التحشيد كما يفعل خصومهم. نحن نعتمد على إقناع الناس بالمنطق، لا بالغريزة. وأعتقد أن أهل بيروت اختبروا أداء المجلس البلدي الحالي والممدَّد له، وكان أداءً سيئًا. أما موضوع المناصفة، فأقول إنهم يستخدمونها كذريعة، وهذا هو جوهر المحاصصة".
ويُذكر أن بيروت تخضع لنظام إداري فريد يمنح المحافظ صلاحيات واسعة تتجاوز الطابع الإداري إلى تفاصيل العمل البلدي، إذ يخضع موظفو بلديتها مباشرة لسلطة المحافظ، وليس لرئيس البلدية أو المجلس البلدي. هذا التداخل يؤدي إلى إضعاف المجلس البلدي ويجعله أقرب إلى هيئة استشارية، خلافًا لما هو معمول به في مدن أخرى مثل طرابلس. وقد أسهم هذا الواقع في تعميق الإحباط الشعبي من جدوى الانتخابات البلدية، كما استمرار اعتكاف تيار المستقبل عن المشاركة، ما يعزز الشعور العام بأن التغيير الفعلي لا يزال بعيد المنال.
أيضا، الإصلاحات لواقع البلدية بقيت بعيدة المنال على مر العقود، ولأسباب تتعلق بحسابات ضيقة لكل مرحلة، ما حال دون تحقيق مشروع بيروت الكبرى التي تضم المناطق المحيطة بها، كما كان الطرح بعد اتفاق الطائف وعودة السلم الأهلي، ما يمكن أن يؤدي إلى توسيع نطاق صلاحيات المحافظ والمجلس البلدي في آن معا. لكن الإصرار على إضعاف العاصمة، سواء في مرحلة الوصاية السورية، أو في عهد هيمنة محور الممانعة فيما بعد، أجهض هذا المشروع.
في المحصلة، تمثل انتخابات بلدية بيروت اختبارًا دقيقًا لقدرة المدينة على تجاوز الأطر التقليدية في إدارة شؤونها المحلية، وسط مشهد سياسي متقلب. وبين مشاريع متناقضة ومقاربات مختلفة، تبقى المشاركة الشعبية هي العنصر الحاسم في تحديد وجهة المرحلة المقبلة، سواء باتجاه تكريس الواقع القائم أو فتح الباب أمام تجديد فعلي في العمل البلدي. فالرهان لا يقتصر على الأسماء، بل يتعداه إلى ما يمكن أن تطرحه هذه الانتخابات من نقاش حول مستقبل الحوكمة المحلية في مدينة تعاني من تراجع في الخدمات، وضعف في التخطيط، وشعور متنامٍ بالتهميش.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها