السبت 2025/05/10

آخر تحديث: 10:04 (بيروت)

الانقلاب على العناوين القاتلة

السبت 2025/05/10
الانقلاب على العناوين القاتلة
الكفاح المسلّح استنفد أغراضه (Getty)
increase حجم الخط decrease

كل ما بات في الحوزة يدعو إلى الانقلاب على الموروث الفكري والعملي، في الإطار الوطني الخاص، وفي الأطر العربية المحيطة. لقد صارت السكينة المحليّة طلباً عزيز المنال، في امتداد الاهتزاز الذي يصيب المحليّات المجاورة، هذا أعاد إلى النقاش مسألة "الاتصال والانفصال"، مثلما أعاد إلى الواجهة سُبلَ الأفكار الجديدة المطلوبة، لدى مقاربة كل مسألة من المسائل.

في لبنان:
في المدى المحلّي اللبناني، يجب إعلان تقادم مقاربة مسألة المقاومة اللبنانية بشقيها، الموجّه منه ضد العدو الإسرائيلي، والموجّه منه ضد احتلالات سورية وفلسطينية ابتكرت العداء لها صنوف من اللبنانية.

المجال مفتوح للحديث عن مصادر الخطر على "التشكيلة" اللبنانية، والسجال مطلوب حول بنود تعريف كل خطر، وحول تعريف أسبابه، وحول تحديد مستنداته... كل ذلك في سياق البحث عن "وطنيّة" لبنانية بديلة، تقطع مع ما بات بالياً من السيرة الكيانية، وتنتقل إلى ما يُتوخّى منه أن يشكل قاعدة لوطنية مستقبليّة حصينة.

يكثر الحديث عن الدولة وبنائها، ويستمر المتحدّثون في سلوك سياسي ينفي الدولة المشتركة، ويكتفي بمضمره الذي يتصوره عن الدولة التي تناسبه، وإذا كان شرط الدولة، إنعاش مشتركات، فإن ممارسة الأطراف الطائفية، ما زالت مستمرّة في تجفيف "مياه" هذه المشتركات. لقد صار التصحُّر حصيلة لسياسات المستمطرين، وسياسات الذين ينسبون إلى سماواتهم احتكار استدعاء الغمام.

بوضوح: لا للدولة التي يضمر بناءها الطائفيون، ولا لإدامة القتال كما يحدده المقاتلون، ولا لابتكار مقاومات، أو لإحياء أوهام صمود، ما زالت تشكل عناصر افتراق بين اللبنانيين.

إعادة تحديد موقع لبنان بأنه موقع دفاعٍ عن وجوده، في وجه الأخطار الإسرائيلية أوّلاً، لا يعني مباشرة تزكية الاستمرار في الأسلوب القتالي الذي وضعت الحرب الأخيرة نقطة ختامه الخاسرة.

على الوتيرة ذاتها، تحديد الموقع اللبناني الصراعي، يتجاوز المصاعب العظيمة التي تعترض التسليم بسيادة الهدوء الوجودي على التماس الحدودي مع العدو، ما إن تنفذ طلبات هذا العدو الذي يمليها كشروط لوقف عدوانه. وقف العدوان الآن، لا يعني استبعاد تجدّده في كل أوان، لذلك يجب الانتقال من محطة خسارة فرضتها موازين القوى، إلى سياسة حصانة وطنية شاملة، تمنع عن لبنان فواتير الخسائر.

ماذا يترتّب على ذلك بالملموس؟ أولاً، وقف التراشق "التعصّبي" الذي زاد افتراق اللبنانيين، وأي ضخ لعناصر القوة في "التكتلات" الطائفية والمذهبية. ثانياً، إعلان القناعة بحقيقة الدولة الممكنة، حالياً، وهذه لن تكون إلاّ دولة توازنات طائفية. ثالثاً، البحث في كيفية تحقيق التوازن الطائفي هذا، بعيداً من التذاكي ومن دون أوهام استقواء، ومن دون مخاطرة بركوب مركب التفوّق الظرفي الذي لا تسنده معطيات داخلية.

بصراحة مطلوبة، لبنان ليس بلداً مقاوماً، هذا بعد أن صار للمقاومة أكثر من اسم وأكثر من أب، وأكثر من وظيفة.

ولبنان ليس بلد الاستقلالية المطلقة، ولا بلد السيادي من جهة، والتابع من جهة أخرى، هذا لأن لا استقلالية مطلقة لأي بلد في العالم، في ظل ما هو معلوم من أوضاع عالمية، وهذا لأن التبعية أو الارتباط أو الصلة بمرجعية خارجية... ما زالت وجهة نظر يلعب بين كلماتها كل اللبنانيين. إذن، لبنان بلد له محدّداته الداخلية، وله سياساته الخارجية، فإذا كان الثابت "الكيان النهائي"، فإن المتبدّل سيظل كيفية صيانة ثبات هذا الكيان، في كل سياق موضوعي، وفي مواكبة كل تبدلات في الأوضاع الخارجية، وفي العلاقات البينية الداخلية.

في فلسطين:
كانت فلسطين وما زالت، أساس الصراع العربي- الإسرائيلي. مسار الصراع الذي تطاول منذ وعد بلفور في القرن العشرين، بإقامة وطن قومي لليهود، عرف تعرّجات كثيرة، كانت خاتمتها الحالية، معركة المواجهة في غزّة، ومعركة الإسناد في لبنان، والاشتباك الصاروخي الذي تديره اليمن من خلف الحدود.

العنوان الذي يجب الخوض فيه، يتضمن بندين: الأول، هو العام الذي يُتَرجم فلسطينياً وعربيّاً باسم منظمة التحرير الفلسطينية، والثاني، الخاص الذي نقل البندقية الفلسطينية إلى كتف الإسلامية السياسية.

في ضوء تجربة أصحاب كل عنوان، ختم اتفاق أوسلو رحلة الكفاح المسلح الذي كانت قيادته منظمة التحرير، وفصائلها، وختمت الكارثة الأخيرة تجربة أصحاب الشعارية الإسلامية. لقد نال الختام في أوسلو، موافقة من عمل لأجله، وهذا كان اعترافاً واقعيّاً بحصيلة الصراع الذي اهتزت ركائزه بعد اجتياح العدو للأرض اللبنانية، وسيطرته على العاصمة بيروت، أمّا ختام ما حصل بعد طوفان الأقصى، فما زال بحاجة لاعتراف أهله بحصيلته المدمّرة، وبنتائجه السلبية على كل المسار الفلسطيني، شعباً ومؤسسات وخيارات وآفاق حلول.

استبدال العنوان الفلسطيني لا يضيره البحث في مضمون الاسم العام، وليكن السؤال الموحي، لماذا اسم منظمة التحرير؟ هل التحرير ما زال ممكناً؟ وإذا كان التحرير يخاطب أملاً مستقبليّاً، فما وسائل هذا التحرير؟ هل الكفاح المسلح، أم أن هذا عاش عمره الطويل سعيداً، ثم أخذ الجميع إلى نهاية مرحلية غير سعيدة؟ نقاش الاسم، ليس أمراً ثقافياً، بل هو سياسي مجتمعي استشرافي، إذن ما الاسم الجامع لما بقي من الحالة الفلسطينية.

هذا عن العنوان الوطني الفلسطيني الذي كان جامعاً، فكسرت اجتماعه الإسلامية التي خاطبت وحدة إسلامية غير موجودة، ورَعَت حالة انقسام داخلي، كانت كل نتائجها غير محمودة. والحال، ما الحاجة إلى إسلامية مسلّحة، وحصيلة تسليحها ما يعرض على الشاشات، وما يدور في الباحات الأمامية وفي الغرف المغلقة الخلفية.

تحتاج فلسطين اليوم إلى شعار وحيد وهو: تثبيت الفلسطيني في أرضه، والحفاظ على ما انتزعته الحركة الشعبية الفلسطينية من مكاسب محدودة بعد اتفاق أوسلو، وترسيخ القناعة الثابتة حتى تاريخه، أن الكفاح المسلّح قد استنفد أغراضه، وأن استعادة الممكن، على طريق التأسيس لتأطير وجود الشعب الفلسطيني في دولة، له مسالك جديدة، تعريفها جديد، ووسائطها مبتكرة، ومستنداتها رؤية متجدّدة، لكل أحوال السيرة الفلسطينية، ماضياً وحاضراً وإلى أمد مستقبليّ طويل.

من المخاطب:
لا يلقى الكلام في المجهول، فالجديد المطلوب مسألة صراعية، مع العدو ومع الصديق، مع الغريب ومع أهل البيت، لذلك يجب ألاّ تتصحر الحالة العربية، فتفتقر إلى حداء حيّ يطرد بريح شجاعته كل عناوين الغبار القاتلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب