معركة البلديات ليست تقنية ولا خدماتية فقط. إنها معركة على من يملك القرار، ومن يُعرّف الصالح العام ومن يُقصى منه. إن البلديات ليست مجرّد مؤسسات خدماتية، بل مواقع صراع اجتماعي وسياسي. والمعركة من أجل استعادتها هي معركة من أجل استعادة المجتمع نفسه. إذا أردنا الحديث بجدّية عن التحول الديمقراطي في لبنان، فلا بد أن يبدأ ذلك بتحرير المجال المحلي من السيطرة السياسية. وهذا لا يتم فقط عبر المشاركة في الانتخابات، بل عبر كشف بنيتها، وفضح آليات السيطرة داخلها.
أوليغارشية الحيّ
في الأنظمة الديمقراطية السليمة، تُعتبر الانتخابات البلدية آلية لتمكين المجتمعات المحلية، ومنصة لإشراك المواطنين في صنع القرار وتحقيق التنمية. لكن في لبنان -حيث تتقاطع السلطة المركزية مع البنى الاجتماعية المحلية لإعادة إنتاج النظام القائم بأدوات ديمقراطية الشكل، سلطوية الجوهر- تُحوَّل هذه الاستحقاق بشكل ممنهج إلى أداة تُستخدمها الطبقة الحاكمة لإعادة إنتاج سيطرتها وترسيخ سلطتها، لا لتلبية حاجات الناس أو إصلاح المدن والقرى.
الانتخابات البلدية، بهذا المعنى، تعكس مصالح شبكة أوليغارشية مترابطة تُخضِع "المحلي" لـ"الوطني" وفق منطق الزبائنية والطائفية والولاء الشخصي. كما شرح بيير بورديو في تحليله للعنف الرمزي، فإن الطقوس الانتخابية تُستخدم أحيانًا لترسيخ موازين القوى، خصوصًا في المجتمعات المنقسمة. الانتخابات البلدية في لبنان تؤدي هذا الدور تحديدًا: فهي لا تغيّر قواعد اللعبة، بل تُضفي شرعية دورية على النخب التقليدية، من خلال إقصاء البدائل وتشويه التمثيل.
فتُستخدم كطقس دوري لإعادة الشرعية للأوليغارشية، وليس لمحاسبتها. يتم فيها ترسيخ مواقع النفوذ داخل المجالس، وتثبيت سلطة العائلات السياسية، واستبعاد كل من يحاول تقديم مشروع بديل أو مستقل. ومع الوقت، تتحول هذه المجالس إلى كيانات مغلقة، لا تعبّر عن نبض المجتمع، بل عن ميزان القوى بين أجنحة النظام نفسه.
البلديات كأدوات ضبط اجتماعي
من خلال الهيمنة على اللوائح الانتخابية البلدية، تفرض الأحزاب والقيادات الطائفية سيطرتها على الأحياء والبلدات، ليس فقط لضمان حضورها السياسي، بل لضبط السلوك الاجتماعي والسياسي للأفراد. البلديات، في هذا السياق، تُستخدم كوسيلة "رقابة ناعمة" على المواطنين: من يحصل على وظيفة، من تُعبَّد طريقه، من تُنار حارته، ومن يُقصى من الخدمات.
يُلاحظ أن البلديات تُستخدم كأدوات لـ "الضبط الاجتماعي" (social control)، وهو مصطلح صاغه ميشال فوكو في سياق رصده لآليات الحكم التي لا تعتمد على القمع المباشر، بل على تطويع السلوك وتوجيهه عبر مؤسسات ظاهرها خدمي، لكن مضمونها سلطوي. السلطة هنا لا تمارس عبر القانون أو المؤسسات، بل عبر الامتيازات والمحاسيب. ويتم استخدام الانتخابات كأداة لإعادة بناء شبكات الولاء، وتحديد "النافذين" داخل كل حيّ، وتكريس منطق الطاعة مقابل الخدمة.
الدولة المخترقة
الدولة تصبح ليست فقط ضعيفة لكن مخترقة، بسبب خرق مؤسساتها من قبل شبكات نفوذ غير رسمية، تعمل على إعادة توجيه وظائفها لخدمة مصالحها. ليست المشكلة في غياب الدولة فحسب، بل في حضور دولة تسعى عمدًا إلى إفقار المجتمعات من أدوات الفعل الذاتي. البلديات التي تُفترض أن تكون فضاءً لتعبئة الموارد المحلية، تُجفَّف ماليًا وإداريًا لتبقى رهينة السلطة المركزية، فلا تتحرك إلا بمباركة الزعيم أو الحزب.
هذا الفقر البنيوي ليس تفصيلاً، بل نتيجة مباشرة لاستخدام السلطة للبلديات كآلية حرمان: حرمان من الخدمات، من التخطيط، من العدالة، ومن الكرامة. المواطن لا يُعامل كمساهم في الشأن العام، بل كمتلقٍّ مشروط للمنفعة، مرهون بولائه السياسي.
في عمق هذا المشهد، تُفهم لماذا تُفشل أي محاولة لتطوير البلديات، أو تعزيز استقلاليتها، أو خلق مساحات للمبادرة المحلية. فالتنمية، في منطق السلطة اللبنانية، ليست غاية، بل تهديد. تنمية البلديات تعني خلق مواطن مستقل، يعني زوال الحاجة إلى الوسيط السياسي، يعني انكشاف زيف النظام. لذلك، تُمنع البلديات من أداء دورها، ويُفرَغ الاستحقاق الانتخابي من معناه، ليصبح مجرد غلاف شرعي لاستمرار المنظومة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها