ما كان لرئيس حزب الكتائب أن يسرد ما أوحت به إليه نفسه، ففي سرده ألغى صفته العمومية كنائب، واعتمر قبعة "هويته" الخصوصية، ثمّ سدّد ورمى، وكان هو إذ رمى، وما كان طلب المصارحة والمصالحة، من رمى.
ركب "الرئيس" سامي الجميل صهوة الحماسة، فَكَبَا به جوادها، وجادَ لسانه بأسماء مواقع "مقاومته"، فَزَلَّ به المعنى، وانقلبَ على مرجِ انفتاحه الأخضر، يباسُ الكلمات.
نستعيدُ من بيان "الرئيس" الجميّل، ما يخالف القصد، وما ينكث بالوعد، ثم نفتح باباً للمناوشة الجاذبة، ما دامت الدعوة إلى "الكلمة السواء" جملة خادعة كاذبة.
بصوت عالي النبرة قال "النائب" قولًا فَصْلًا: هم أَتُوا إلينا، وليَس نحن من ذَهَبَ لملاقاتهم، نحن أهل عين الرمانة والأشرفية، وصنين وزحلة...، ولم يكمل بجملة مضمرة هي: إن غير "الأهل"، هم الغرباء الدخلاء.
جملة "الأغراب" ليست دخيلة على قاموس الرئيس "الشيخ سامي"، بل هي من إرث جده الرئيس "الشيخ بيار الجميّل"، الذي طَعّمَ بياناته الشفوية بالتمييز بين أقحاح اللبنانية، وبين ناقصي "القحيّة"، والطارئين عليها.
وما دام السيد "الرئيس" عاد إلى كتابه الأهلي، قارئًا مستنكرًا، وَجَبَ على الذين كانوا على الصفحات الأخرى من درس القراءة، أن يردوا على الاستنكار المتسائل، باستنكار شبيه، وما دام الخطيب قد قرع الباب، فعليه أن يسمع الجواب.
مطلع القول، إن "السبت الأسود" المعلوم من قبل "الرئيس"، هو الذى أتى على المارّة في ساحة البرج، حين أتاهم، والذين حملوا موت الفجاءة إلى النبعة، استهدفوا مقيمين غير طارئين، ومن قصف سوق الخميس في بنت جبيل، لم يبرّر فعله بسبب معلوم... وسعد نايل التي قُصفت، لم تكن خط تماس مع زحلة، وصنين يسأل اليوم من دخله من جهة "الأهل"، ليكون خطًا واصلًا بين البقاع "والمنطقة المحرّرة"،... ومن استدعى التدخل السوري، ومن استقوى بالعدو الإسرائيلي، لم ينبس حتى الآن بكلمة تدين فعلته... إذن، عيّنة في مقابل عيّنة، والخلاصة من ذلك، أن تأبّط السيد سامي الجميل "حكاية" الدفاع عن النفس، ليست صحيحة كلها، وما كان موضع ظن وشكّ، في جزء منه، جعل الشكوك والظنون تطال باقي الأجزاء.
عَوْدٌ إلى الأساس، لقد تنقّل حزبُ الشيخ الجميل، بين مَوْقِعَي الهجوم والدفاع، مثله مثل الأطراف التي حاربها وحاربته، وحسب تطورات الوضع الميداني على الجبهات، وحسب حشود القوى، الخارجية والداخلية، التي كانت خارج المعادلة الأهلية، ثم انضمّتْ إليها... العودة إلى الأساس، هي العودة إلى القراءة السياسية، فهناك أَصْلُ الحرب الأهلية وفَصْلِهَا، لذلك نطرح السؤال السياسي الذي لا مفرّ من طرحه، ولا هروب من صياغة الجواب عليه، صياغةً غير تلفيقيّة، وغير استنسابيّة، تظلّ لَصِيقَةً بغاية الاعتراف بالخطأ وبالخطيئة، وبهدف المصارحة، لتكون مصالحةً إن أَعْوَزَهَا تمامُ اكْتِمَالِهَا، أَنْقَذَهَا اجْتِنَابُ النُكْرَان.
ونتابع...
نتابع من دون شرحٍ مسهب، لا لتقصير في اللغة، وإنما بدواعي الانغلاق على اللغة الخاصة التي ما زالت مقفلةً على ذاتها، بقرارٍ سياسي ولأسبابٍ ضيقةٍ واضحة. وعليه، علينا أن نستفسر عن صنف القراءة الداخلية البديلة التي تجعل سطورها سطوراً استرجاعيةً أخيرة، هذه التي يجب أن تتوزع مجدداً على زمنين:
الأول: زمن تلك الحرب الذي وضع حداً له الاجتياح الصهيوني لبنان، وصولًا إلى بيروت العاصمة.
الثاني: زمن ما بعد النسخة الأولى من الحرب الأهلية، التي تلتها نسخات متعاقبة، نعيش اليوم في ظلّ النسخة الأحدث منها.
وفي الزمنين المشار إليهما، حقبات متصلة، هي صور لحرب أهليّة، متصلة على غير انقطاع.
لكل حقبة اسم وسِمَات، وقوى وأحكام. تفريع كل اسم وتفكيك حروفه، مدخل إلى فَهْمِ الحرب الجزئية، من ضمن فَهْمِ الحرب الكليّة، ومدخل أيضًا، إلى فَهْمِ الحرب الكليّة، من خلال مجموع حروبها .
على ذلك، لا يمكن القول بحرب أهلية لبنانية، من خلال جملة واحدة، مثلما لا يمكن القول بختام واحد، لحرب أهلية، كان كل ختام منها، فاتحة لسِيْرَةٍ أهليةٍ صراعيةٍ جديدة.
ولأن الحربَ أَهْلُهَا، أي بِنْيَةُ اجتماعها، وأنساقها الأهلية والشعبية والرسمية... ولأن الحرب تلك، كناية عن نظام ومعارضة، وأحزاب ويمين ويسار، وإرث إقطاع سياسي، وجمع بورجوازية هجينة، وصُوَرُ ليبرالية عرجاء، ولبنانية شوهاء، وعروبة هوجاء... لكلّ ذلك، تلحّ الحاجة إلى قول كلمة استخلاصية، في كل تلك المكونات، وهذه الأخيرة ليست كلمة نهائية، بل رأيًا افتتاحيًّا، أو مفتاحيًّا، في المكوّنات التي بادَ بعضها، وسادَ بعضها الآخر، وتبدّل من البَعْضَيْن، البائد والسائد، أكثرُ من بعض.
لكلٍ مِمّا أشير إليه، اسمٌ ماضٍ وإسمٌ حاضر، لكن السؤال الذي يطال الجميع هو: ما علاقة كل اسم كان، باسمه الذي صار إليه؟. الجواب فيه كيفَ ولماذا... وفي الجواب رؤية كلٍّ من المجيب لذاته، وللسائل في قوام ذاته.
يفتقر لبنان إلى قراءة استرجاعية جادة، من هذا النمط. يكاد الأمر يقتصر على مقاربتين فقط، الأولى، تلك التي تقدمت بها منظمة العمل الشيوعي في لبنان... باسمها الجمعي، وعلى لسان أمينها العام محسن ابراهيم، خصوصاً ما أدلى به، من منبر ذكرى الشهيد جورج حاوي.
المقاربة الثانية، هي ما أدلى به امين عام الحزب الشيوعي، جورج حاوي، قولا، وبشّر به ممارسةً ونشاطًا.
كخلاصة أولى: تصعب نسبة مراجعة وازنة، إلى طرف غير الشيوعيين اللبنانيين، حزباً ومنظمة، ولنقلْ إنهما تنكّبا هذه المسؤولية لأنهما كانا مسؤولين، بشكل خاص، ضمن الحرب الأهلية، وشاركهما في ذلك، المعلم الشهيد كمال جنبلاط.
وخلاصة ثانية ما قاله الشيوعيون ليس فَصْل الكلام، ولا خاتمته إذن، ماذا عن الكلام في الكلام، وعن الكلام؟. ماذا عن الذين لم يتعرض لهم الكلام؟ وماذا عن ما بعد كل كلام؟
القفز من فوق الزمنين الأهليين الماضيين، لا ينفي الحاضر المحاصر بالأسئلة، في معرض الخطابية، مثلما فعل السيد سامي جميل، أو في معرض الردود الواجبة، التي صارت اليوم زمناً ثالثاً لأنه هناك من يصرّ على أن يقيم على ثبات، على الضد من سيولة الأزمنة.
زمن الحرب الثالث يستدرج أسئلة من قبيل:
1- أين بدأت مقاومة اللبنانيين، سنة 1975، في الجنوب ضد الإسرائيليين، أم في عين الرمّانة ضد لبنانيين آخرين؟
2- من كان العدو سنة 1975، إسرائيل، حسب تعريف اللبنانيين "الملوّثين" بالعروبة وبالشيوعية وباليسار الدولي؟ أم الفلسطينيين ومن حالفهم، حسب اللبنانيين "المطهرين" من كل رجس خارجي؟
3- من استدعى القوات السورية إلى لبنان؟ وهل كان استدعاء التدخل العسكري السوري عملاً استقلالياً سيادياً لا تشوبه شائبة؟
4- من استعان بالإسرائيلي سنة 1982، ليطرد احتلال القوات المشتركة اللبنانية والفلسطينية، ولم يكترث لحقيقة أنه جاء باحتلال ليطرد ما سماه احتلالاً؟
5- من قاتل الدخول السوري؟ ومن قاتل الاحتلال الإسرائيلي؟ سياديو اللبنانية الصافية؟ أم خليط "اليسار الدولي"، ذو اللبنانية الهجينة المختلطة؟
الجواب اليوم، مسموع في وسائل الإعلام تسكنه حربه الأهلية القديمة لدى السياديين المستمرّين في الزمان والمكان... "والعنفوان".
الجواب يسكنه "خليط الفلسطينية اللبنانية" الذي اعتذر، ثم تلاشى وانحسر... ولعله اندثر، وتسكنه أيضاً المقاومة التي لم تكن موجودة سنة 1975، لذلك ليس لها ما تدلي به اعتذاراً، لكنها تواظب على ما تدلي به انتصاراً وانتصاراً.
والحصيلة:
اعتذر فريق "الحركة الوطنية"، ونادى بالنسيان ولم يعتذر فريق القوات اللبنانية، فأمعن وما زال في معاندة الاعتذار والنسيان.
وعليه، عادت إلى الواجهة "مقاومتان"، وخطابان ونظريتان، ومرجعيتان خارجيتان، وقاعدتان أهليتان، فأي اعتذار؟ وأي نسيان؟ وأي لبنان؟ يلحُّ ثقل الحاضر على استماع أهلي مختلف، ذلك أن المقاومة الحالية، استدرجت غيرها إلى مباراة الأقدمية، لذلك ما زالت المعالجة قاصرة، وما زالت الصياغة اللبنانية الجديدة متقادمة وعاثرة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها