يصرّ بعض اللبنانيين على حصر أسباب الحرب الأهلية بالوجود الفلسطيني على أرضنا، متجاهلاً الجذور اللبنانية الداخلية للأزمة المتعلقة بما كنا نسميه "نظام المارونية السياسية" و"الامتيازات" و"الحرمان" وغياب المشاركة الحقيقية في السلطة و"الإنماء المتوازن بين المناطق" ورفض أي محاولة للاصلاح السياسي. لذلك وفي الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب ينبغي التذكير بالتالي:
1- في الموضوع الفلسطيني:
هجّرت إسرائيل الفلسطينيين من أرضهم، في خطوة على طريق مشروعها لإقامة إسرائيل الكبرى. أركان النظام السياسي في لبنان استقبلوا الإخوان الفلسطينيين. المسيطرون على مفاصل الاقتصاد والصناعة استخدموهم يداً عاملة لفترة طويلة من دون أية تكلفة أو رسوم للدولة، وحصرت التنمية في مناطق معينة. ومع الوقت، تمّ تجنيس عدد منهم على أساس "الانتماء الطائفي" والمصلحي بالتأكيد، وحرم على الأساس ذاته كثيرون من الجنسية من الذين ساهموا في إنعاش الاقتصاد اللبناني وحركة المصارف. بدأت الأمور تتغير عندما وقعت هزيمة العرب في حرب 1967 وانتصرت إسرائيل انتصاراً كبيراً، وذهب الفلسطينيون إلى الإمساك بقضيتهم بيدهم، ولقوا بالتأكيد تأييداً لهم، لأن ثمة فريقاً في لبنان كان ولا يزال يقرأ المشروع الإسرائيلي بكل مخاطره وأبعاده، ويرى أنه يستهدف لبنان أيضاً، وأن القضية الفلسطينية هي قضية حق وقضية عربية، آخذين بالاعتبار أمرين أساسيين، الأول هو أن إسرائيل وقبل ظهور السلاح الفلسطيني في الداخل احتلت جزءاً كبيراً من الأراضي اللبنانية وضمتها إلى كيانها، والثاني هو أن النظرة إلى القضية الفلسطينية مربوطة بالخلاف اللبناني- اللبناني على هوية البلد، والتي لم تحسم في ما يسمى "ميثاق 1943". والدليل على ذلك أنه تمّ تحقيق تقدّم في النص في اتفاق الطائف عند الإشارة الى نهائية الكيان وانتمائه العربي في آن معاً.
في مرحلة ما بعد الـ67 قام حلف ثلاثي غريب عجيب، ضم أركان المارونية السياسية والعميد ريمون إده الذي اعتبر لاحقاً أن تلك الخطوة كانت خطأ، وإن كان أحد أهداف الحلف مواجهة سياسة المكتب الثاني بعد عهد الرئيس فؤاد شهاب. في العام 1968 قصفت إسرائيل مطار بيروت ودمرت عدداً من الطائرات، ثم جاء اتفاق القاهرة الذي وافق عليه الجميع بمن فيهم أركان النظام، باستثناء العميد ريمون إده. وهو الاتفاق الذي شرعن الوجود الفلسطيني المسلّح. ثم بعد أحداث أيلول عام 1970 في الأردن وقيام نظام الأسد في الشام، تمّّ ترحيل الفلسطينيين إلى لبنان، ولم يسمح لهم بالبقاء في سوريا. وزادت الأمور تعقيداً وزاد ثقل الحمل على لبنان، وتفاقم الخلاف أكثر، وكانت إسرائيل تستبيح كل شيء. جاءت فرقة كوماندوس بقيادة إيهودا باراك ودخلت من منطقة الأوزاعي، تجوّلت في بيروت. اغتالت القادة الفلسطينيين بتاريخ 10/4/1973 كمال عدوان، كمال ناصر وأبو يوسف النجار وغيرهم، وعادت من الطريق ذاته ولم يتخذ أي إجراء ولم يتحمّل أحد المسؤولية. ثم تلا ذلك قصف المخيمات من قبل الإسرائيليين، ومشاكل داخلية مع الفلسطينيين في أكثر من منطقة.
وكان كمال جنبلاط ومعه القوى الوطنية يقرأ ما يجري في سياق التحضير لمسلسل عنف خطير في البلاد، خصوصاً عندما أعلن الرئيس الراحل سليمان فرنجية "أن لبنان غير قادر على حماية الفلسطينيين" وتضاعف وجود السلاح. حاول كمال جنبلاط تأخير الانفجار، استيعاب الأحداث والمشاكل. لكن ما رسم قد رسم وتوسّع الانتشار الفلسطيني إلى حدود الجنوب. بعض المصرّّين على حصر أسباب الحرب بالوجود الفلسطيني يقولون اليوم "إن الدولة لم تقم بحمايتنا فاضطررنا إلى حمل السلاح". هذا غير صحيح. الدولة كانت دولتهم بالمعنى السياسي للكلمة، وفي ظل النظام المعروف، إضافة إلى أن الجيش كان يدرب عناصرهم ويمرّر بعض السلاح في الداخل، ويغطي تهريب السلاح من الخارج. حتى عندما اندلعت الحرب، كان قسم أساسي من الجيش إلى جانبهم. ومع ذلك، رفض كمال جنبلاط تقسيمه، وحاول تفادي الأمر إلى أن وقعت الواقعة وكانت الحرب. وكان المطلوب في ذلك الحين تصفية القضية الفلسطينية، بدءاً من تصفية الوجود الفلسطيني في لبنان. وتداخلت المصالح السورية- الإسرائيلية- الأميركية. وكان فرز على أرض لبنان. اندلعت الحرب وتطورت مع الوقت حتى أصبحت حرب الحروب. حروب الدول، والطوائف، والأحزاب، والميليشيات و"ريّاس" الأحياء وحروب المغانم والمكاسب اليومية، واستخدم لبنان ساحة تصفية حسابات.. ولم تنجح كل محاولات رأب الصدع. كانت اجتياحات إسرائيلية متتالية. ورفض إسرائيلي لدخول الجيش اللبناني إلى الجنوب حتى مع الموافقة الأميركية، كما حصل بعد اجتياح 1978 وصدور القرار 425. تتالت الاجتياحات وصولاً إلى بيروت، وتبادل مصالح بين إسرائيل والذين رفعوا شعار العداء للفلسطيني وللسوري، بعد أن تذاكى كثيرون في لعبة التشاطر على الطرفين الإقليميين، تارة بمشاريع الكونفدرالية مع السوري، وطوراً بوعود غير قابلة للتحقق مع الإسرائيلي، وكانت الكارثة.
كل هذا لا يلغي أن العنصر الفلسطيني كان سبباً رئيساً من أسباب الحرب. وأن الفلسطينيين ارتكبوا أخطاء جسيمة في ممارساتهم ودفاعهم عن قضيتهم، وأن كثيرين من الذين أيدوا هذه القضية ذهبوا بعيداً في حساباتهم المربوطة بجزء كبير منها بمحاولات التغيير الداخلي، والذي سدّ أرباب النظام السياسي كل محاولات تحقيقه قبل وخلال فترة الحرب، في كل اللقاءات والمؤتمرات والقممن وصولاً إلى اتفاق الطائف. والكلفة كانت كبيرة على الجميع.
2- في التغيير الديموقراطي والإصلاح:
إن رفض أرباب النظام الإصغاء لكل المطالب الشعبية والنقابية والطلابية والسياسية، الداعية إلى تحقيق توازن وشراكة حقيقية في بنية النظام، والاهتمام بالمدرسة الرسمية والجامعة الوطنية وديموقراطية وحرية التعبير، وإنصاف الأساتذة وصون حقوق العمال والمزارعين وتحقيق عدالة اجتماعية. وهي مطالب تعني كل اللبنانيين وليست محصورة بطائفة أو مذهب أو حزب أو فئة معينة، ولأنها كذلك استطاع كمال جنبلاط بعقله ورؤيته الإصلاحية السليمة للواقع السياسي اللبناني، والتصاقه بالناس وقضاياهم وهمومهم، أن يكون حاضراً في كل المناطق اللبنانية، وأن يبني علاقات سياسية مع شخصيات متنوعة مؤمنة بالإصلاح، وأن يقود مع الأحزاب والقوى الوطنية أكبر وأوسع التحالفات الهادفة إلى التغيير والإصلاح، حتى بات نفوذه ودوره كبيرين على مساحة البلاد كلها.
انطلاقاً من هذا الواقع يمكن القول إن اندلاع الحرب في لبنان، كانت أول إشارة لانقلاب حقيقي نفّذه أركان النظام القديم، لضرب مشروع التغيير الديموقراطي، الذي كان قاب قوسين من تحقيق أهدافه، وفي الوقت ذاته ضرب الوجود الفلسطيني على الأرض اللبنانية. وهذه ظاهرة غريبة عجيبة، أن ينقلب أهل السلطة على أنفسهم، في محاولة واهمة للتخلص من الآخرين. هذه نقطة واقعية لا يمكن لأحد تجاهلها.
كمال جنبلاط استوعب العملية وحاول تفادي الحرب أو تأخيرها في مرحلة معينة، وطرح مشروعاً متكاملاً باسم الحركة الوطنية عنوانه: "البرنامج المرحلي للإصلاح السياسي في لبنان"، لإعطاء البعد السياسي الداخلي أهميته، وفتح نقاش سياسي حوله. لكن محاولاته باءت بالفشل. بعض الذين تمسكوا بلبنان الكبير في مرحلة، رفعوا مطلب التقسيم، ثم ذهب بعض آخر إلى اعتبار أن البطريرك حويك ارتكب خطيئة بإنشاء لبنان الكبير. وبعض الذين حملوا شعار الحرية والكرامة والديموقراطية ذهبوا إلى حافظ الأسد، وطرحوا عليه مشروع الكونفدرالية مع سوريا، في وقت رفض كمال جنبلاط أمامه المشروع وحلف الأقليات، وقال له: "أرفض دخول لبنان إلى السجن العربي الكبير"، كما رفض المشروع الإسرائيلي وتمسك بوحدة لبنان، ونكهة ونعمة التنوّع فيه، وثوابت الحرية والديموقراطية والعدالة، وكان شهيد السيادة الحقيقية والإصلاح والدفاع عن فلسطين. وفتحت أبواب جهنم الخارج والخوارج، وكانت حرب الحروب، كما قلت. وأكرر مجدداً: "لقد جرّبنا كل شيء وجُرّبنا في كل شيء، استخدمنا كل شيء واستُخدمنا في كل شيء والنتيجة إلى الطاولة". عندما تقاطعت المصالح الدولية والإقليمية وكان الطائف، قبله لم نبنِ دولة وبعده فشلنا في بناء الدولة أثناء الوجود السوري، الذي كلّف بإدارة لبنان من قبل الأميركيين والعرب. وبعد خروجه فوّتنا فرصاً كثيرة على أنفسنا. من ناحيتنا ذهبنا إلى مصالحة لكنها لم تقم على مصارحة عميقة. كانت خطوة مهمة يجب حمايتها وتطويرها وتعميمها بين كل المكونات اللبنانية إذا أردنا حماية البلد ومستقبله بتنوعه وغناه.
المعايشة والمراجعة
عشت فصول الحرب اللبنانية منذ اندلاع شرارتها الأولى وكنت أقيم في المنطقة التي شهدت ذلك. انخرطت في العمل السياسي الإعلامي مواكباً كل محطاتها. تعلمت الكثير. راجعت كل شيء. وقفت عند كل كلمة وموقف ورأي ولا أبالغ في ذلك، وكتبت بعد توقفها مقدمة مجموعة التعليقات السياسية التي أذعتها في إذاعة "صوت الجبل" وكانت نوعاً من المراجعة لتلك المرحلة، ونتاج لقاءات غير معلنة عقدتها مع شخصيات ورموز كنا على خصام شديد معها. تعلمت من التجربة ومن تلك اللقاءات ومن لعبة الدول. ولذلك ساهمت لاحقاً في إنضاج قرارات ومواقف لاقت اعتراضاً عند البعض، لكنها كانت نابعة من تلك المراجعة. لست نادماً على شيء. أنا فخور بكل ما فعلت والأهم تعلمت. وأنا أكثر قناعة بأن لا مكان في السياسة وتحديداً في بلد مثل لبنان للحقد والكراهية والحمق والتهوّر والمكابرة والاندفاعات غير المحسوبة. وهذا ينطبق على سلوكنا اليومي في إدارة كل شؤوننا أيضاً، وأن "عقل التسوية" هو الأرجح، وأن لا خلاص لنا من مشاكلنا التي تفاقمت أكثر وأكثر اليوم، إلا بالتفاهم والحوار والعمل على لملمة "العقل الجماعي" اللبناني، وتنقية الذاكرة فعلياً، والتعلّم من التجارب.
ذات يوم كتبت في ذكرى الحرب "لبنان يعلّم. اللبنانيون لا يتعلمون". بعيداً عن التعميم تبدو اليوم هذه الحقيقة أكثر رسوخاً. يذكر البعض "الذاكرة الجماعية"، الذاكرة ليست مستوعباً ندخل إليها ما نشاء من بضاعتنا ونخرج ما نشاء. الوقائع والحقائق عنيدة، ولا يعتقدّن أحد ولو كان يرى نفسه تاجراً شاطراً في السياسة أنه يستطيع التعامل مع الذاكرة والحقائق هكذا، لأن لا أحد منا يملك كل الحقيقة ولأنه ينبغي الخروج من "عقل الكهوف" إلى رحاب العقل الأوسع.
بعد خمسين عاماً، نعم لكل من يدعو إلى المصالحة والحوار واللقاء والخروج بتسوية سياسية. لا أتحدث هنا عن الدستور بل لإدارة علاقاتنا اللبنانية- اللبنانية على أسس من الثقة العميقة، كي لا تبقى علاقات لا ثقة، علاقات مسايرات، ومصير كل لبنان على المحك. للبحث صلة حول مرحلة ما بعد الطائف.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها