اكتسبت الأحزاب اللبنانية مبرّر وجودها، من تنكبها لأفكار قضايا كبرى، تداخل فيها البعد القومي مع البعد الأمميّ، مع "الأبعاد" الكيانية اللبنانية وأفكارها... في الغالب، استمدت الأحزاب التي اتخذت من اليسار موقعاً لها، قوتها وديناميكيتها وعناصر تأثيرها، من وهج وحرارة "القضايا الخارجية" التي دافعت عنها. يندرج في هذا المقام عناوين الوحدة العربية، وتحرير فلسطين، وبناء الاشتراكية والانضمام إلى حركات التحرر الوطني وأفكارها... لقد جرت محاولات لتوطين هذه الأفكار وإنتاج نسخ لبنانية خاصة منها، فنقلت تطويرات هذه الأفكار إلى اجتهادات لبنانية تحاول تعديل النظام، أو تغييره... من أجل اللحاق بركب "التطور" والتحديث والتحرّر، ما كان يعني في نهاية المطاف، انتاج الحاضنة الداخلية الملائمة، لدفع عملية التلاقح الداخلي- الخارجي وترسيخ نتائجها، في مسالك البنية اللبنانية. غنيّ عن القول، إن الأفكار الكبرى تلك، سقطت في بلدان المنشأ، سقوطاً لا تحجبه المكابرة، ولا تمنع الخوض فيه، سلامة الأهداف، أو الطموح الدائم إلى تحقيقها!
لم يقدم موقع "اليمين اللبناني" ما هو أفضل حالاً. فلقد تراجعت "اللبنانية" وحوصرت، على يد أبنائها أيضاً. هؤلاء الذين لم يدركوا أنه لا يمكن قَصْرُ اللبنانية على حدود طائفة مركزية، تقيم مع طوائف الأطراف علاقة التحاق مؤبّدة، والذين لم ينتبهوا إلى أن "أزلية لبنان" لا تعادل، إطلاقاً، أزلية ثبات التشكيلات الاجتماعية. لذلك سقطت الصيغة عندما عجزت عن الموازنة بين مشروعية كيانيتها كإطار لخصوصيتها، وبين ضرورات فتح أبواب الكيانية أمام متغيرات الأطياف الكيانية الداخلية، لاستيعابها، وأمام حراك المحيط الخارجي، الحاضر بقوة في دواخل الصيغة، للحد من تفاعلاته وتأثيراته. بكلامٍ آخر، غاب عن "الكيانيين" أن صيغة كيانهم فعل يومي، يعاد إنتاجه باستمرار.
قدمت التطورات اللبنانية المتلاحقة مشهداً واضحاً عن سقوط الصيغة الحزبية الموروثة، بشقيها "اليميني" و"اليساري"، لكن السقوط لم يكتب نهاية الاحزاب الناطقة باسم "المشروعين" المتقابلين. هذه مفارقة يمكن تلمس أسبابها في الحالة اللبنانية. لقد استمرت الهياكل الحزبية، التي فارقتها تطبيقات أفكارها، في صيغة إعلانات قيادية من هذا الحزب أو ذاك، تفصح عن حقيقة أن الاسم الحزبي ما زال على قيد الحياة، وأن إضافة الحزب المجتمعية والسياسية، باتت لا تتعدى حيز الانضمام إلى هذا الطرح الأهلي اللبناني، أو ذاك. انتقل مبرر الوجود الحزبي من القضايا الكبرى وأفكارها، إلى ميدان الالتحاق "بالكتل الطوائفية"، التي نهض العمل الحزبي في مواجهتها، من موقع يسارها، أو في تلطيف صورتها بشيء من "العنصرية" من موقع يمينها. بإيجاز، أخلت بشائر اليسارية والديموقراطية مكانها لنقائضها الطائفية، ومثلها فعلت طلائع "الليبرالية"، وبوشرت في الموقعين السياسيين "والفكريين" عمليات تنظير وتحليل وتبرير، لم تقدم غير التخلي عن الأهداف الحزبية الأصلية.
من العوامل الإضافية التي تساهم في مدّ "الحزبية اللبنانية"، المنتهية الصلاحية سياسياً، غياب المراجعة الداخلية، على صعيد الأحزاب ذاتها، ولا مبالاة الجمهور حيال هذه الأحزاب التي قادت ذات يوم حراكه الصاخب. تراجُع مفهوم المساءلة الشعبية، كمقياس لحضور الوزن الحزبي، أو تضاؤله، أفسح في المجال، في لبنان، لادعاء يردده كل حزب عقائدي، عن أن الحياة أثبتت صحة آرائه؟! وما سهل من ادعاءات "النفوذ" هو تواطؤ- تفاهم التشكيلة الأهلية اللبنانية النافذة، على فولكلور مشترك، يقضي بتلميع واجهات حزبية قديمة، وبتصنيع واجهات جديدة، لافتعال نفوذ ممتد يتعدى حدود "مناطق الأهل الصافية"، ولاصطناع مسحة "ديموقراطية تعددية"، دليلها إلى ذهن القارئ أو السامع أو المشاهد، اعتلاء "العلمانيين" من بقايا، اليسار والتقدمية والتنوير والليبرالية... لمنابر الطوائف، والإدلاء بما يتراءى لهم من آراء! نَجَم عن ذاك التواطؤ، المحسوب طوائفياً، والمقبول حزبياً، تعميم "الديماغوجيا" وتعميقها في وعي الجمهور الطوائفي، مثلما ساهم في تشتيت الوعي، وفي منع تبلوره، نقدياً لدى الأوساط الحزبية. لكن، وعلى الرغم من كل ذلك، يعتقد فريقا المعادلة الجديدة، أنهما في موقع سياسي رابح، من حيث تبادل المنافع، واختلاق الأدوار. فالأهلي السائد يكتفي بحسن توظيف واستثمار سياسة الاتباع، والحزبي الباحث عن إطلالة لامعة، تقيه شر خفوت الدور، "يؤوب من الغنيمة" بحصيلة الوجاهة... الإعلامية.
ها نحن نرى، كنتيجة، لصعوبة وتعقيدات الأوضاع اللبنانية، هروباً عاماً إلى السهولة والاستسهال. يبدو انعكاس ذلك جليّاً في تخاذل "السياسي العام" عن تحليل التحالفات غير الطبيعية، والتغاضي عنها، ثم الخضوع لمنطقها والإقبال على الربط معها. مثلما يظهر ذلك، في لامبالاة المستوى الثقافي حيالها، وعدم المبادرة، إلاّ في ما ندر لتناولها. وإلى هذا وذاك، يضيف المستوى الاعلامي لمسته، فيملأ مساحات برامجه وشاشاته، بكل الأصوات التي تحسن تأدية أدوار... الفراغ!
لقد تراجع الطموح الجدي، المسكون بهمّ الحلول الداخلية فعلاً، إلى حدود طلب طرق أبواب المواضيع الفعلية، وجرّ المتخاصمين إلى ساحات نقاشها. هذا لأن السائد حالياً، هو النقاش في زواريب المواضيع الوهمية. قد يبدأ الأمر بسؤال حول القدرة على تعييّن المعضلات المشكو منها، بسؤالٍ آخر، عن أهلية التشكيلة السياسية اللبنانية كلها، للخوض في تفاصيل المعضلات، واجتراح نوع من التسويات حيالها، وإكمال ذلك بسؤال ثالث عن رؤية "صعاليك الطوائف" للتسوية الطائفية الراهنة الممكنة، بديلاً من طموحات مهيمنات الطائفية المستحيلة، التي تدغدغ مخيّلات عدد من الكتل الأهلية الداخلية الكبرى. هذه مهمة، يجب أن تملأها "الحزبية" التي ارتضت الإقامة بين ضفاف المتناحرين بتواضع ومن دون ادعاءات أدوار تاريخية، إنّما بتلمّس مستنير لمواطئ الأقدام، وبالتمتع بنفس تاريخي طويل، لإعادة بناء المواقع الاجتماعية المشتركة، والمستباحة من قبل الطوائف وأحزابها وتشكيلاتها... إلى حين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها