قبل نصف قرن بالضبط، لجأ مسيحيو لبنان إلى السلاح بعدما سبقهم مسلموه في التسلح والاستقواء بترسانة المنظمات الفلسطينية. ووقف الجيش اللبناني عاجزاً، فلا هو بوارد إشعال حرب على الفلسطينيين ولا على اللبنانيين أنفسهم. فهو إذ اصطدم عسكرياً مع المنظمات الفلسطينية عامي 1969 و1973، باشتباكات ضيقة النطاق، أدرك أن هذا النزاع بات مصدر شقاق طائفي عميق. فالمسلمون الذين يطالبون بتغيير في النظام اللبناني وهويته وسياسته وبكيفية إنتاج السلطة فيه، مدفوعين أيضاً بأيديولوجيات عروبية ويسارية، انحازوا إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي حولت لبنان وجنوبه إلى منطلق للعمل "الفدائي" (الحرب الشعبية الطويلة الأمد) ضد إسرائيل. وما بين "إصلاح النظام" و"حماية" البندقية الفلسطينية، خرج المسلمون على الدولة التي كانت بنظرهم كياناً مصطنعاً (وفق أدبيات ما زالت رائجة نسبياً).
وما سرّع هذا الخروج، إصرار مسيحي متعنّت على مقولة أن المسلمين "قاصرين" في الوطنية وعدم أهليتهم في تقاسم السلطة والإدارة أو المساواة في الحقوق والواجبات. وكذلك كان الانقلاب المسيحي التاريخي على الشهابية التي عملت على الإنماء المتوازن والإصلاح المؤسساتي وتعميم التحديث، فغلبت على المسيحيين سياسة يمينية متطرفة أقرب إلى فاشيات جنوب أوروبا.
الخوف المسيحي على لبنان من المدّ الفلسطيني، البعثي، الناصري، وما كان يسمى حينها "اليسار العالمي"، أوقعهم بقطيعة مع المسلمين، الذين بدورهم لم يبدوا أي حرص على كيان ودولة غير مقتنعين تاريخياً بشرعيتهما من ناحية، وليس لهم فيهما "الحصة العادلة".
وإذ وُجد السلاح وفاض، ما عاد النزاع سياسياً. وما عاد ممكناً الاحتكام إلى آليات العمل البرلماني والانتخابي والنضال السلمي.
باختصار، كانت الحماسة المتبادلة للحرب أقوى من أي سياسة. كانوا جميعاً ينتظرون تلك الشرارة. لم يتخيل المسيحيون أن حرصهم وغيرتهم على "لبنانهم" سيوديان إلى خرابه ونكبتهم. كما لم يتخيل المسلمون أن حقوقهم الوطنية وطموحاتهم القومية وعواطفهم الفلسطينية، ستؤدي إلى هزائم بالجملة وخسارات لا تعويض لها.
وكان حافظ الأسد بالانتظار مغتبطاً، للانقضاض على واحة الحرية الأخيرة في العالم العربي، وللاستحواذ على لبنان وعلى "القضية الفلسطينية" بضربة واحدة. وإسرائيل على أتم الاستعداد مبتهجة للانقضاض على النموذج اللبناني النقيض لها، وعلى هؤلاء الفلسطينيين "المزعجين".
في الداخل وفي الخارج، الكل لبى الدعوة برغبة عارمة إلى الحفلة الدموية الطويلة.
وبعد 15 عاماً من الحروب المتناسلة، لم يقتنع جميع اللبنانيين بالدرس الأهم: السلاح خارج الدولة ومهما كانت غايته هو رديف الحرب الأهلية. بل لا نتيجة له إلا الحرب الأهلية. والأسوأ أنه "يطوّر" الحرب الأهلية إلى حروب إقليمية.. تنتصر فيها إسرائيل، مراراً وتكراراً.
السلم الأهلي بقي ناقصاً بوجود السلاح، الفئوي والمذهبي. ورغم أن غايته المعلنة تتراوح بين "حماية لبنان" و"تحرير القدس"، إلا أن استخدامه تراوح بين ترهيب الأغلبية الساحقة من اللبنانيين، التسلط على الدولة ومؤسساتها، تدمير الاقتصاد، التورط في حرب إجرامية ضد الشعب السوري، حملة اغتيالات لا مثيل لها على امتداد سنوات، تسخير لبنان ومقدراته لحساب الحرس الثوري الإيراني، تأجيج الكراهية الطائفية والمذهبية، معاداة الدول العربية، استجلاب العقوبات والحصار والعزلة والإفقار والجريمة المنظمة، وتوطيد نظام مافيوي فاجر وناهب.
في الأثناء، كانت إسرائيل تراقب، تتنصت، تصوّر، تتجسس.. وتستعد للحظة المناسبة. فيما كان السلاح مزهواً بنفسه، منتشياً بنفوذه وسطوته على البلد وأهله. نشوة عمياء جعلته يستهزئ ويستخف بالعدو. فهذا السلاح كما تعلمنا وذقنا منذ العام 1969، لا يحصد سوى النكبات.
وهكذا، أتى خريف 2024 بعاصفة نارية لا سابق لها، وتحول لبنان إلى حطام، مرة جديدة، وللأسباب الملعونة ذاتها التي كررها علينا التاريخ عشرات المرات، بلا اتعاظ ولا عبرة.
نزع السلاح غير الشرعي ليس مطلباً إسرائيلياً ولا يجب أن يكون كذلك. هذه كذبة قاتلة. ليس أحب على إسرائيل من مشهد بلاد عربية غارقة في فوضى السلاح والحروب الأهلية وانهيار الجيوش الوطنية، من سوريا إلى اليمن فلبنان.
حان الوقت. نصف قرن يكفي.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها