مشهدٌ أول
منتصف الأسبوع الماضي، في إحدى قرى جبل لبنان الصغيرة، لقي كلبٌ شارد، لم يتجاوز السنةَ من عمره، حتفه، عندما بدأ يتخلّى عن حذره ويثق بأن جنسنا ليس عدوًا، وأننا لا نضمرُ له شرًّا وغدرًا. لم يكن «بوتايتو»، وهو الاسم الذي أحببتُ أن أطلقه عليه لطيبته وهشاشته وانحناءة تهذيبه ونبله، كلبًا عنيفًا أو عنيدًا أو مزعجًا. كان مجرد مخلوق هشّ يبحث عن دفءٍ قليل، عن طعامٍ يسدّ رمقه، وعن نظرة رحيمة، إن توفّرت، من عابرٍ لا يركله أو يطرده أو يطارده.
ومع ذلك، لم يمنع هذا مجرمًا وضيعًا من أن يدسّ له سمًا قتله في دقائق. سقط بوتايتو، في وضح النهار،على قارعة الطريق، يرتجف من الألم، بينما تابعت القرية حياتها المملّة بلا مبالاة تامة، وكأن شيئًا لا يستحقّ التوقف عنده. وكأنَّ بوتايتو اللطيف المسكين لم يُغدَر به ولم ينتهِ تحت التراب.
لم يكترث للجريمة سوى قلّة صغيرة، وفّروا للمغدور وداعًا محترمًا يليق بمخلوقٍ نبيلٍ خُذل من أكثر المخلوقات قسوة وخداعًا على الأرض: الإنسان. مختار القرية –وهو السلطة المحلية كوْن القرية أصغر من أن يكون فيها مجلس بلدي– اكتفى بهزّ رأسه وبَرم شفتيه. وتابع نهاره من دون أدنى اكتراث بقاتل الكلب وبالسمّ الممنوع استخدامه، وبقانون حماية الحيوانات الأليفة والرفق بها وعدم تعنيفها وتعذيبها (قانون 47 تاريخ 5/9/2017)، وهو على الأرجح لم يسمع به! وحتى أنه لم يهتم لمصير جثته والشروط الصحية لدفنها.
وهكذا، أُضيفت هذه الجريمة الصغيرة إلى آلاف الجرائم التي تُرتكب كل يوم في حقّ المخلوقات، في هذه البلاد الشاردة: بشرًا كانوا أم حيوانات أم حتى طبيعة وأشجاراً. كلُّها ضحايا الإهمال نفسه، وضحايا الدولة نفسها التي شردت عن دورها ومسؤوليتها، وغابت تاركةً كلّ شيء فريسة للعبث.
ربما لم يكن موت بوتايتو حدثًا عظيمًا في نظر أحد، لكنه كان مرآة مصغّرة لبلدٍ فقدَ قدرته على الإحساس، بلدٍ صار فيه الغدر عادة، والرحمة استثناءً، والقانون حبرٌ على ورق.
مشهدٌ ثانٍ
في الأسبوع نفسه، وعلى مسافة مئات الكيلومترات من القرية، وضع الموفد الأميركي السفير توماس باراك إحدى رجليه على الأخرى، وجلس يروي «حكايته» عن لبنان، في جلسةٍ لم تخلُ من السخرية والواقعية السوداء. قال الرجل، بكل بساطة، ما يعرفه اللبنانيون منذ زمنٍ طويل: «لبنان دولة فاشلة».
ثم راح يسرد التفاصيل بلغة الأرقام: لا مصرف مركزي فاعل، ولا قطاع مصرفي قائم بدوره، ولا كهرباء، ولا ماء، ولا تعليم رسمي يمكن الاتكال عليه. الدولة، لا تقوم بأي من وظائفها. فالمواطن إن أراد كهرباء لجأ إلى المولّد، وإن أراد ماء اشتراه من مصادر خاصة، وإن أراد تعليمًا لولده لجأ إلى مدرسة خاصة. وفوق ذلك هناك 60 مليار دولار مفقودة من النظام المصرفي اللبناني و 75 مليارًا أخرى ديوناً. وإذا أضيفت إليها 50 مليار دولار سندات يوروبوند مع فوائدها، يصبح لدينا 130 مليار دولار من ديون الدولة. ومع ذلك ترفض السلطات إجراء تقييم للفجوة المالية، وترفض التعامل مع البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي..
ثم انتقل إلى المقارنة التي صدمت الكثيرين: الجيش اللبناني، بكل ما تبقّى له من موارد ضئيلة، يواجه حزبًا يمتلك أربعين ألف مقاتل، وصواريخ تُعدّ بالآلاف، ورواتب تناهز 2200 دولار للمقاتل، في حين يتقاضى الجندي اللبناني ما لا يتجاوز 275 دولارًا شهريًا. وسأل باراك أمام الملأ: «أي جيشٍ هو الحقيقي في لبنان؟ وأي دولة تحكم فعلًا؟».
كلام هذا «الحكواتي» لم يكن اكتشافًا جديدًا، ولا تحليلاً عبقريًا. فالمسألة أن معظم ما جاء به هي حكاية واقعية يعرفها ويصدّقها الجميع. ولكن ورودها على لسان مسؤول أميركي بهذا المستوى هي طامة كبرى. وطامة أكبر أن حكايته مرّت من دون أدنى ردّ أو ردّ فعل لبناني رسمي. بل رافقتها مواقف رسمية غامضة طلبت من الجيش اللبناني «التصدي» لأي توغّل إسرائيلي. جيدٌ الموقف ولكنه جاء أيضًا على طريقة دونكيشوت. فكلّنا يعلم بأنَّ الجيش غير جاهز وغير قادر على القيام بما عجز عنه الحزب المُدجّج بترسانة باليستية، والذي أجزاه باراك نفسه أفضلية عسكرية على الجيش اللبناني، من دون أن يرفّ له جفن دعم الجيش قبل القيام بالمهام الوحيدة المطلوبة منه في الوقت الحاضر، وهي بسط سلطة الدولة وحدها وتسلّم سلاح «حزب الله»، كما ورد في اتفاق وقف إطلاق النار بموافقة الحزب، كي نستطيع حينها حضّ دول العالم على فرض الانسحاب الإسرائيلي، وتجنيب ما بقي من البلاد مصيرًا بات معروفًا.
مشهدٌ أخير
بين جريمة قتل كلبٍ شاردٍ في قريةٍ صغيرة، وتصريحات مسؤولٍ أميركي كبير عن دولةٍ فاشلة، تتجسّد مأساة لبنان في مشهدٍ واحدٍ ممتدّ: غياب الدولة. الدولة التي لا تطبّق قوانينها، ولا تبسط سلطتها ولا تحمي حدودها، لا تحمي كائنًا ضعيفًا، ولا تحاسب أحدًا.
فما قاله باراك عن الفشل الإداري وعن الانهيار الشامل في مؤسسات الدولة، لا يختلف كثيرًا عن مشهد القرية التي سمحت بأن يُقتل فيها كلب بريء بلا أدنى مساءلة. الاثنان وجهان لحقيقة واحدة: شرودٌ عام، وفقدانٌ تام للحسّ والمسؤولية.
وإذا أحصينا تخبّط الدولة في موضوع التفاوض مع إسرائيل مباشرًا أو غير مباشر، بوساطة أو من دونها، اليوم أو غدًا أو أبدًا، وفي موضوع بسط سيطرتها، كما وعَدت في «خطاب القسَم»، وفي بيان حكومتها التي تُساكن مقاعدها مع ممثلّي مَن يجاهر ليلًا ونهارًا بعدم تسليم سلاحه! إضافة إلى مسائل أقلّ خطورة، ولكن ليس أقلّ أهمية، كتعديل قانون الانتخاب مثلا، للسماح للمواطنين غير المقيمين «قسرًا» بالاقتراع من منافيهم أو بحرمانهم من هذا الحق، بلجنة وزارية أو في لجنة نيابية، بمشروع مرسوم أو بتعديل نيابي، ببطاقة ممغنطة أو ببطاقة كيو آر كود، أو من غير بطاقة على الاطلاق، فيما سَحبُ الاستعاضة عنها بميغاسنترز من التداول يكشف تواطؤات لا تنتهي، إلى آخره من فوضى التخبّط الدولتي المستمرّ في تضييع فرص النجاة في كلّ مرّة. كلّ ذلك، لا يبرّر جريمة قتل الكلب الشارد بوتايتو ولكنه يؤكد شرود دولتنا وأن مصيرها ليس أكثر حظًا من مصيره.
خاتمة: لا بأس إنها جرائم عادية!
في بلدٍ طبيعي، كان مقتل كلبٍ مسمومٍ يستدعي تحقيقًا ومساءلة. وفي دولةٍ حيَّة، كان كلام الموفد الأميركي سيثير أزمة سياسية أو على الأقل نقاشًا جديًا. لكن في لبنان، يمرّ الحدَثان مرور الكرام، كما سبق ومرّ بلا محاسبة ما هو أخطر وأفظع بما لا يُقاس: سرقة مدّخرات الناس، وتفجير عاصمتهم، وخطف وقتل كثيرين، وأخذ البلاد وشعبها رهائن حروبٍ لأجل الآخرين.
حدَثان ينتميان إلى السياق نفسه: دولةٌ فقدت إحساسها بالعدالة وبالكرامة. دولةٌ شاردة عن معناها. لم تعد تعرف إن كانت قادرة على الحياة، ترغب بها، أو أنها ترتاح في الغيبوبة، غارقة تحت الشعارات البالية نفسها. لاحت أمامها إمكانية نهوض، أو هكذا بدا، ولكن سرعان ما ضاعت مجددًا تحت سطوة مغتصبيها وكسَلها في مقاومتهم.
«بوتايتو» لم يكن سوى تفصيلٍ صغير جدًا في مشهد الخراب الكبير جدًا. لكنه اختصارٌ دقيقٌ لحالنا: يموت مَن يثق، ويُكافأ القاتل والسارق والمفجِّر بصَمتنا المطبق. في النهاية، الكلب الشارد لم يكن وحده ضحية. فكلّنا مشرَّدون في وطنٍ بلا صاحب، ضحايا السمّوم نفسها: اللامبالاة والخذلان واغتصاب الدولة، وتقاعسها عن الدفاع عن نفسها حين تستطيع!
