"نحن شعب عربي واحد ضمه في حومة البعث طريق
الهدى والحق من أعلامه وغباء الروح والعهد الوثيق"
(محمود إسماعيل)
منذ تأسيسها عام 1948، شكّل محيط إسرائيل الجغرافي والسياسي أحد أبرز محددات استراتيجيتها الأمنية. فالدول العربية الكبرى المحيطة بها كمصر، سوريا، العراق، والأردن كانت تُرى ككيانات قادرة نظريًا على تشكيل تهديد وجودي، إذا ما توحّدت الإرادة السياسية والقدرات العسكرية. ومنذ ذلك الحين، تُتهم إسرائيل بامتلاك استراتيجية غير معلنة، تهدف إلى تفكيك الدول العربية إلى كيانات أصغر طائفية أو إثنية، بحيث تضمن بقاءها كقوة مهيمنة في المنطقة، وتمنع قيام أي قوة عربية موحّدة قد تهددها مستقبلاً.
سواء كانت هذه الاستراتيجية ميثولوجيا سياسية متناقلة أم مشروعًا واقعيًا وفعليًا، فإن الوقائع التاريخية والخطابات السياسية الإسرائيلية وبعض الوثائق الفكرية تتيح قراءة معمقة للسؤال: لماذا قد تسعى إسرائيل لتقسيم محيطها إلى دويلات؟
فالوعي التأسيسي للدولة الإسرائيلية يتشكّل حول فكرة التهديد الدائم. فمن منظور المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، يقوم العالم العربي على دوائر عداء تاريخية وسياسية ودينية تجعل بقاء إسرائيل مهدَّدًا دائمًا. كمجتمع مصغّر يعيش وسط محيط أوسع، طوّرت إسرائيل منذ البداية عقيدة تقوم على:الضربات الاستباقية، تفوق نوعي في التسليح، التحالف مع القوى العظمى، إضعاف أي خصم محتمل.
من هنا، يتجلى أن تفتيت الدول المجاورة يصب ضمن هذه العقيدة: دولة ضعيفة أو مفككة أو منشغلة بصراعاتها الداخلية، لن تكون قادرة على خوض حرب شاملة أو دعم الفلسطينيين عسكريًا وسياسيًا.
ما يساعد على هذا السعي هو كون الشرق الأوسط فسيفساء معقدة من الهويات: عرب، أكراد، أتراك، فرس، سنّة، شيعة، مسيحيون، دروز، علويون وغيرهم. تدرك إسرائيل، ومعها قوى دولية كبرى، أن هذا التنوع يشكل مصدر قوة في حال توحّد في إطار دولة وطنية جامعة، ومصدر ضعف إذا تمت تغذيته لصالح مشاريع تفكيك.
من منظور واقعي، تُفضل إسرائيل جيرانًا موزعين إلى كيانات صغيرة متنافرة قوميًا وطائفيًا، على نموذج: دولة سنية هنا، إمارة شيعية هناك، منطقة كردية، كيان مسيحي أو درزي، حكم قبلي أو مناطقي في مناطق أخرى. وفق هذا المنطق، الشرق الأوسط المتشظي يتيح لإسرائيل البقاء القوة الأكثر تماسكًا وتنظيمًا وتطورًا.
التاريخ الحديث للمنطقة يقدم سلسلة محطات كثيرًا ما استشهد بها محللون عرب وغربيون لإثبات توجهات إسرائيلية لتشجيع التفكك. منها: دعم علاقات مع الأقليات في لبنان منذ السبعينيات، تعاون مع بعض الفصائل الكردية في العراق خلال فترات مختلفة، اتصال مع بعض قبائل جنوب السودان قبل انفصاله، تحالفات مع قوى محلية في سوريا خلال الحرب الأهلية، تشجيع مشاريع الحكم الذاتي في أكثر من رقعة جغرافية. هنا لا بد من الإشارة إلى أن الدعم لا يعني بالضرورة خلق الصراع، لكنه غالبًا يعمّق أو يوظّف تناقضات قائمة أصلًا.
كثيرًا ما يُشار هنا إلى ما يعرف بـ"خطة يينون" الصادرة عن الدبلوماسي الإسرائيلي عوديد يينون عام 1982، المنشورة في مجلة "كيفونيم". الوثيقة، على الرغم من أنها ليست بيانًا حكوميًا رسميًا، طرحت فكرة تفكيك الدول العربية الكبرى إلى وحدات أصغر طائفية وإثنية باعتبارها الطريقة لضمان تفوق إسرائيل.
المفارقة هي أن السيناريوهات التي تحدثت عنها الوثيقة، في العراق وسوريا ولبنان تحديدًا، تجلت خلال العقود اللاحقة بدرجات متفاوتة. هل كان ذلك مخططًا أم قراءة مبكرة لميل بنيوي في المنطقة؟ لا يمكن الجزم بهذا أو ذاك الاحتمال.
لكن الواضح هو أن إسرائيل ليست الفاعل الوحيد في هذا السيناريو. مشاريع إعادة هندسة الشرق الأوسط ليست جديدة؛ القوى الاستعمارية في القرن العشرين، من سايكس–بيكو إلى اللحظة الراهنة، مارست سياسات تقسيم واضحة. واليوم تلعب الولايات المتحدة وإيران وتركيا أدوارًا متشابكة في صراعات المنطقة. قد يكون المشروع التفكيكي هنا نتاج تلاقي مصالح دولية وإقليمية لا مجرد إرادة إسرائيلية منفردة. فضعف الدول المركزية يخلق بيئة يمكن لقوى متعددة استثمارها، وليس إسرائيل وحدها.
تمتلك المنطقة موارد استراتيجية هائلة: النفط والغاز والمعابر البحرية وخطوط التجارة. دولة عربية قوية موحدة تمتلك موارد الطاقة، وسوقًا كبيرة، وموقعًا جغرافيًا مهيمناً، ستكون منافسًا محتملًا لإسرائيل، اقتصاديًا وجيوسياسيًا. أما الدول الصغيرة الممزقة، فتعاني من ضعف القدرة على إدارة الموارد وتبعية اقتصادية للخارج والحاجة لحماية أمنية وتشتت القرار السياسي
وهذا يمنح إسرائيل نافذة نفوذ وتفوق اقتصادي طويل الأمد ضمن سوق شرق أوسط مشرذم.
بالنسبة لفكر سياسي إسرائيلي، هناك أيضًا بعد مرتبط بفكرة الدولة اليهودية. فوجود كيانات دينية وطائفية في المنطقة يجعل النموذج الإسرائيلي أقل غرابة في محيط يفقد تدريجيًا تصور "الدولة الوطنية المدنية". وهكذا، تتحول إسرائيل من استثناء ديني–قومي إلى حالة مشابهة لما حولها.
هنا يظهر السؤال الأهم: هل ترسم إسرائيل مسار المنطقة، أم تستفيد من انقسامات داخلية عربية سبقتها عقودًا وربما قرونًا؟
واقع الأمر أن هشاشة البنى الوطنية في بعض الدول العربية، وانتشار الفساد، وانهيار العقد الاجتماعي، وصعود الهويات ما قبل الوطنية، كلها عوامل صنعت بيئة يمكن لأي لاعب خارجي توظيفها. وإذا كانت إسرائيل تسعى إلى تفتيت الجوار، فإن الداخل العربي أحيانًا سهّل الطريق بفعل الأنظمة السلطوية وتسييس الدين والتهميش الإثني والطائفي وغياب مشروع ديمقراطي جامع وسوء إدارة التعدد الثقافي.
في الختام، سواء اعتبرنا فكرة "التفتيت الإسرائيلي للمنطقة" خطة استراتيجية ممنهجة أو قراءة مبالغًا فيها لنوايا تل أبيب، فإن الثابت هو:مصلحة إسرائيل هي محيط ضعيف مفكك، والقوى الكبرى تاريخيًا دعمت مشاريع مشابهة، والانقسامات الداخلية العربية لعبت دورًا حاسمًا، ومستقبل المنطقة مرتبط بقدرة دولها على إعادة بناء مؤسسات قوية وهوية جامعة.
إن أفضل رد عربي على أي مشروع تفتيتي ليس الخطابات ولا الاتهامات، بل بناء الدولة الوطنية الحديثة العادلة التي تحتوي تعدد هويات شعوبها بدل أن تنفجر بها.
