لبنان نحو مفاوضات مباشرة مع إسرائيل: النتائج غير مضمونة

إبراهيم الرزالأربعاء 2025/11/05
Image-1762287679
أكد لبنان الرسمي، بلسان رئيس الجمهورية، أنه “جاهز للسلام ضمن مبادرة السلام العربية" (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

تحتل مسألة المفاوضات بين لبنان وإسرائيل صدارة الأحداث في ظلّ التحولات الإقليمية المتسارعة والضغوط الدولية المتزايدة عليه. فالموضوع لم يعد محصوراً بترسيم حدود أو بضمانات أمنية؛ بل بات يتصل بشكل العلاقة بين دولتين لا اعتراف متبادلاً بينهما، وبالآليات التي يختارها لبنان للتعامل مع هذا الواقع.

واليوم، موازين السياسة تتغير بسرعة في المنطقة، ذلك أنّ عدداً من الدول العربية لم يعد يرى في المفاوضات المباشرة خرقاً للثوابت؛ بل وسيلة لإدارة مصالحه في ظلّ خريطة تحالفات جديدة وواقعية سياسية مختلفة.

ومع صعود الرئيس أحمد الشرع إلى الحكم في سوريا، ودخول حكومته جولات تفاوض مباشرة مع إسرائيل، فتحت أمامه أبواب البيت الأبيض في سابقة تاريخية، في حين أن لبنان يجد نفسه أمام مفترق طريق، إما عليه البقاء متمسكاً بالإطار غير المباشر أم سيجد نفسه أمام خيارات جديدة، لا سيما تحت وطأة ضغط متزايد من واشنطن وتل أبيب. الأميركيون يفضّلون مفاوضات مباشرة، كما يبين تصريح الموفد الأميركي توم براك الذي أعلن رداً على حديث رئيس الجمهورية جوزاف عون أن لا خيار للبنان سوى التفاوض "فليتصل رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويعملان على معالجة كل الرواسب". 

وإن كان هذا الخيار غير مطروح لبنانياً، فعلى الدولة اللبنانية إشراك ممثلين سياسيين أو ديبلوماسيين لبنانيين، في أي مفاوضات غير مباشرة لتثبيت "الطابع الرسمي" للعلاقة. أما إسرائيل، فتمارس ضغطاً ميدانياً يومياً عبر رسائل عسكرية متكرّرة وخرق يومي لاتفاق وقف الأعمال العدائية، واستمرار احتلالهم لنقاط عسكرية، كما تصريحات سياسية متكررة خلال الأسبوع المنصرم، تظهر عدم اكتراثهم للحوار والسير بخيار التصعيد العسكري.

 

من الترسيم إلى الوساطة: سيرة مسارٍ غير مباشر

تاريخياً، فضل لبنان نهج المفاوضات غير المباشرة في كل ما يتّصل بإسرائيل. ولا سيما بعد حرب تموز 2006 وصولاً إلى ترسيم الحدود البحرية في العام 2022؛ إذ جرى كل شيء عبر وسطاء دوليين، خصوصاً الأميركيين، وبإشراف الأمم المتحدة.

يعود هذا الخيار إلى مجموعة أسباب متشابكة. أولها قانوني ودستوري: فلبنان لا يعترف بإسرائيل كدولة، وأي تواصل مباشر قد يُعدّ “تطبيعاً” يخالف القوانين اللبنانية. وثانيها يتعلق بالتوازن الداخلي الحساس، مع وجود قوى تعتبر المواجهة مع إسرائيل جزءاً من هوية لبنان الدفاعية، وأيضاً، لا يمكن إنكار ارتباط حزب الله، بمحور الممانعة والنفوذ الإيراني المباشر، وهذا ما يعقّد إمكان الانتقال إلى أيّة صيغة تفاوضية سياسية ستشكل، بدون أدنى شك، صدام قابل للتطور مع قسم من اللبنانيين.

أما ثالثها فهو إقليمي الطابع: فقد أكد لبنان الرسمي، بلسان رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، أنّه “جاهز للسلام ضمن مبادرة السلام العربية التي أقرّت في قمة بيروت في العام 2002”؛ أي في إطار سلامٍ شامل وعادل يشمل الحقوق الفلسطينية والعربية. 

 

المفاوضات بين المباشر وغير المباشر

في جوهرها، المفاوضات غير المباشرة تسمح بإدارة الخلاف من دون أن تخلق واقعاً سياسياً جديداً. فهي تنحصر عادة بملفات تقنية، كالحدود أو الترتيبات الأمنية وتُبقي الرمزية السياسية خارج الطاولة. وهذا ما فعله لبنان في مفاوضات الترسيم البحري، حيث قاد الوفد العسكري المحادثات المتعلقة حصراً بالخرائط والأنابيب وخطوط الترسيم، بعيداً عن أي منحىً سياسي أو اعتراف متبادل.

هذا النموذج يتيح للدولة هامشاً من المناورة: فهي تتفاعل مع الضغوط الدولية من دون أن تُخاطر بشرعنة خصمها. 

في المقابل، المفاوضات المباشرة تعني أولاً اعترافاً ضمنياً، ولو جزئياً، بالآخر كطرف سياسي موجود على الأرض، وإن بصفة "عدو". وهي تفتح ملفات أوسع من الجغرافيا والحدود، لتطال العلاقات، والضمانات الأمنية، وقد تتطور. لذلك غالباً ما يُنظر إليها على أنها طريق نحو «تطبيع مقنّع»، حتى لو لم يُعلن عنه صراحة.

في هذا السياق يقول النائب عن حزب الكتائب اللبنانية الياس حنكش لـِ "المدن" "شكل المفاوضات، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، هو تفصيل. اليوم جرت مفاوضات حول الكثير من القضايا كالترسيم البحري ولجنة الميكانيزم، الطريقة ليست مهمة؛ بل الهدف."

يضيف حنكش " الهدف هو أن يخرج لبنان من حالة الحرب الدائمة التي يعيشها منذ ستين سنة تقريباً. إذ لا توجد حرب أبدية. ومن مصلحة لبنان أن يحافظ على استقراره السياسي وحجر الأساس هو اتفاق الهدنة، لأن استمرار المواجهات العسكرية يعني بقاءنا في دوامة لا تنتهي، وحرب غير متكافئة ولا متوازنة مع العدو. ومن غير المعقول أن نبقى خارج كل ما يحصل في المنطقة، عاجزين عن التخطيط للمستقبل أو تطوير جيشنا أو إعادة البناء لأننا دائماً في حالة حرب. المطلوب أن نصل إلى مرحلة جديدة يرسمها لبنان الرسمي، وأن نلتف جميعاً حول رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لتحقيق هذا الهدف."

ويرى البعض أن التوجّه نحو مفاوضات مباشرة يُعدّ قراراً استراتيجياً وليس إجرائياً، لأنّه يغيّر موقع لبنان في خريطة الاصطفافات الإقليمية، ويمنح إسرائيل مكسباً رمزياً لا يُستهان به. 

وفي هذا السياق، يقول عضو المجلس السياسي في حركة أمل حسن قبلان، لـِ ”المدن”، إنّ الموقف من قضية التفاوض بين لبنان وإسرائيل يجب أن يكون محكوماً حكماً صارماً بالقرارات الدولية التي التزم بها لبنان، وفي مقدمتها القرار 1701، الذي التزم لبنان بموجبه بكل ما هو مطلوب منه في منطقة جنوب الليطاني، بانتظار أن تقدم اسرائيل على ما هو مطلوب منها. وهو ما لا تفعله".

وأشار قبلان إلى أنّ لدى لبنان أيضاً القرار 425، الذي نصّ على انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي اللبنانية، إلا أن الاحتلال لا يزال قائماً في مزارع شبعا، والتي اعترفت اسرائيل بموجب النقطة رقم 10 من القرار 1701 أنها قضية قابلة للنقاش، والجزء اللبناني من بلدة الغجر، إضافة إلى أكثر من ثلاث عشرة نقطة حدودية متنازع عليها. كما ذكّر بالقرار 194 المتعلق بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، مؤكداً أنّ لبنان معنيّ بهذا القرار بحكم وجود اللاجئين على أرضه منذ العام 1948.

وشدّد على أنّ التخلي عن هذه القرارات والذهاب إلى مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة غير مضمونة النتائج. فالتجارب السابقة أثبتت أن إسرائيل لا تلتزم بما توقع عليه..

وأضاف قبلان أنّ “لبنان اليوم أمام خيارين: إما التمسك بالشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن التي تحفظ حقوقه، وإما السير في النهج الذي تدفع إليه الولايات المتحدة وإسرائيل؛ أي تسويات ثنائية تُفرض بموازين القوة خارج إطار الأمم المتحدة”. واعتبر أنّ ما يجري اليوم هو تعطيل واضح لدور مجلس الأمن في معظم القضايا الدولية.

 

بين التمثيل العسكري والسياسي: دلالات وأوزان

يبقى السؤال الأبرز اليوم: ماذا سيتغيّر إذا شارك لبنان بموفدين سياسيين أو دبلوماسيين في مفاوضات غير مباشرة؟ هل يؤدي ذلك إلى رفع مستوى التفاوض من ملف تقني إلى مسار سياسي، ويفتح الباب أمام نقاش أوسع حول طبيعة العلاقة المستقبلية، ويمنح الاتفاقات طابعاً رسمياً يلزم الدولة بتنفيذها أمام المجتمع الدولي؟ أم أن هذا التحوّل قد يثير حساسية داخلية عالية؛ إذ سيُفهم على أنه بداية «تسييس» المفاوضات وتجاوز للحدود الرمزية التي حافظ عليها لبنان؟

وفي هذا السياق يقول قبلان " إنّ “لبنان بلد عربي له تركيبته وتوازناته، ولا يمكن أن ينجرف إلى مفاوضات أو اتفاقات كبرى من نوع السلام أو التطبيع بهذه السهولة. التفاوض المباشر مع إسرائيل ليس تفصيلاً سياسياً؛ بل قضية وجودية تمسّ هوية لبنان ودوره، وهذا أمر انتبه الى مخاطره مؤسسو الكيان والآباء الحقيقيون للكيان اللبناني، ميشال شيحا على وجه التحديد وموريس جميل ومفكرون كبار، لذا فإنَّ أيّة خطوة في هذا الاتجاه يجب أن تُدار ضمن إجماع وطني، لا بقرارات متسرعة تحت الضغط أو الأزمات، ولكن مع التمسك بما استطعنا تحصيله، وهو الميكانيزم، وتنشيطه، كما دعا اليه دولة الرئيس نبيه بري، ولا مانع من تطعيمها بتقنيين وإن كانوا مدنيين كما جرى في المفاوضات البحرية".

وتجدر الإشارة إلى أن وجود مفاوضين سياسيين قد يمنح بيروت ثقلاً إضافياً في المحافل الدولية، ويفتح لها قنوات دعم أو ضمانات أمنية، لكنه أيضاً يُدخلها في حسابات أكثر تعقيداً. فالتفاوض عبر ديبلوماسيين أو وزراء يعني التزاماً أكبر ومسؤولية سياسية أوضح، وهو ما لا تستطيع الدولة اللبنانية تحمّله بسهولة في ظلّ انقسامها الداخلي.

في المحصلة، يجد لبنان نفسه تحت وطأة ضغط كبير، مجهولة تبعاته بين الانفراج والانفجار. فالمفاوضات، أياً كان شكلها، ليست هدفاً في ذاتها؛ بل انعكاس لموازين القوى في المنطقة من جهة، ولتناقضات التوازن الداخلي من جهة أخرى، والأهم لتصوّر الدولة لدورها في محيطها، وبناء أسس أمنها ومصالحها الحيوية.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث