هي المرّةُ الثّانيةُ الّتي "يُهِينُ" فيها توم باراك لبنانَ واللّبنانيّين؛ يقول إنّ لبنان "دولةٌ فاشلة"، وقد سبق له أن ألصقَ باللّبنانيّين صفة ."animalistic" فيديو جديدٌ يتداوله النّاسُ اليوم أعادَ الجدلَ إلى مربّعِه الأوّل. وإذا وضعنا جانبًا تصريحاتِ باراك وتأويلاتِها على اختلافِها، وما رافقها من نصوصٍ وانفعالات، جازَ القولُ إنّ ثمّةَ تباينًا عميقًا بين ما خلصت إليه الدبلوماسيّةُ الأميركيّةُ في لبنان، والقراءةِ الرّسميّةِ اللّبنانيّةِ لها، بكلّ ما أحاطَ بها من شعورٍ عامٍّ بالإحباط.
توقيتٌ مُلتهبٌ وسيناريوهان مُتقابلان
يأتي تصريحُ باراك في الوقت الذي تقفُ فيه السّاحةُ اللّبنانيّةُ على حافّةِ مرحلةٍ مفصليّةٍ عنوانُها: إمّا نزعُ سلاحِ "حزبِ الله" جنوبِيَّ نهرِ اللّيطاني، وإمّا زعزعةُ الاستقرارِ من جذورِه. ومع اقترابِ انتهاءِ المهلةِ المُحدَّدةِ لنزعِ السّلاحِ في غضونِ شهرٍ، يزدادُ القلقُ في إسرائيل كما في لبنان. وكلّما ظنّ لبنانُ أنّه يخطو خطوةً نحو مسارٍ تفاوضيٍّ هادئ، يأتي موقفٌ أميركيٌّ أو إسرائيليٌّ ليُربِكَ الإيقاع.
وبين "التّوصيف" و"التّوظيف"، ليس توصيفُ "الدّولةِ الفاشلةِ" مجرّدَ حكمٍ أخلاقيّ؛ بل أداةُ ضغطٍ سياسيّ تُستَخدَمُ لفرضِ شروطٍ تفاوضيّةٍ، ولتحديدِ مَن يتولّى الإعمارَ والتّمويلَ ومَن يَحصُدُ النّفوذ. تسمياتٌ كهذه تُنتِجُ أثرًا سياسيًّا واقتصاديًّا مباشرًا، وتُعيدُ رسمَ ميزانِ القوى في ملفّاتِ الطّاقةِ والحدودِ والإصلاحات. فإذا تراجعَ المانحون الغربيّون عن تمويلِ الإعمارِ والخدمات، تقدّمت قوى الأمرِ الواقعِ بما تمتلكُهُ من شبكاتِ توزيعٍ ومؤسّساتٍ مُوازية. وهذا ما ألمحَ إليه هوكشتاين حين قال: إن لم يَملأ "المجتمعُ الدّوليُّ" الفراغَ، فسيملؤه آخرون.
ازدواجيّةُ الخطابِ الأميركيّ: رومانسيّةٌ تُجاوِرُ واقعيّةً قاسية
يتأرجحُ الخطابُ الأميركيُّ بين رومانسيّةِ "لبنان الجميل" وخياراتٍ واقعيّةٍ قاسية. هذه الازدواجيّةُ تُربِكُ الدّاخلَ اللّبنانيَّ، وتُغذّي سرديّاتٍ مُضادّةً تتّهمُ واشنطن بقياسِ المواقفِ بمعيارَيْن: تشدُّدٌ حين يتعلّقُ الأمرُ بخصومِها، ولينةٌ حين تقتضي المصالح. تاريخُ العلاقةِ اللّبنانيّةِ مع الدبلوماسيّةِ الأميركيّةِ يُظهِرُ ظاهرةً مُتكرّرة: كثيرٌ من الموفَدين "يتلبنن" سريعًا؛ يتبنَّون السّرديّةَ الشِّعريّةَ عن "لبنان الحُلْم"، ثمّ يصطدمون بمكائدِ الواقع. وهكذا يَسِمُ الازدواجُ بين العاطفةِ والصلابةِ خِطاباتِهم، كما يَسِمُ توقّعاتِ اللّبنانيّينَ منهم. غيرَ أنّ جوهرَ السّياسةِ يبقى في مكانٍ آخر: في الأمنِ والغازِ والحدودِ والاقتصادِ السّياسيّ؛ لا عواطفَ تُبدِّلُ الخرائط. وهنا تكمنُ خطورةُ تعابيرَ من نوعِ "دولةٍ فاشلةٍ"؛ إذ تُمنَحُ بها الشّرعيّةُ لإملاءاتٍ خارجيّةٍ، وتُضعِفُ الموقفَ التّفاوضيَّ اللّبنانيَّ، وتُحوِّلُ النّقاشَ من "كيف ننهضُ؟" إلى "مَن يملأُ الفراغَ؟".
باراك بين "لبنانيّتِهِ" ولُغةِ الإهانة
تبدو تصريحاتُ توم باراك، بما فيها من قسوةٍ وتعميمٍ، مُشبَعةً بإرثٍ عاطفيٍّ تجاه لبنان، ومتأثِّرةً كذلك بصَداقاتٍ وصِلاتٍ مُمتدّةٍ مع لُبنانيّي أميركا وبعضِ دوائرِ القرار. لكنّ السّؤالَ الأعمقَ يبقى مطروحًا: أتُبيحُ "لبنانيّةُ" باراك له إهانةَ لبنانَ واللّبنانيّين، أم أنّ واجبَ الانتماءِ يقتضي لُغةَ نقدٍ مسؤولةً لا تَنساقُ إلى شيطنةِ شعبٍ ودولة؟
ليس في السّجالِ مع باراك مجرّدُ ردِّ اعتِبارٍ لغويّ؛ إنّه صراعٌ على تعريفِ لبنان، وعلى الجملةِ السّياسيّةِ الّتي ستُكتَبُ على هوامشِ أيَّةِ تسويةٍ مُقبلة. فإذا صارَ "التّوصيفُ" سيفًا، صار "التّوظيفُ" سياسةً، وبينهما يقفُ لبنانُ على الحافّة: إمّا أن يصوغَ روايتَهُ ويَحميَ موقعَهُ التّفاوضيَّ ببرهنةِ القُدرةِ على الإدارةِ والإصلاح، وإمّا أن يتركَ للآخرينَ رَفاهَ ملءِ الفراغ.
