في قلب التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، من مصر إلى الخليج وصولًا إلى سوريا والعراق وتركيا، يقف لبنان كمن يُطلّ على صناعة المستقبل من نافذةٍ مغلقة. ففي حين تنهمك دول الإقليم في رسم شبكاتها البرّيّة والبحريّة وربط موانئها بخطوط نقلٍ عابرةٍ للحدود، تنشغل النخبة السياسيّة اللبنانيّة بنقاشاتٍ عقيمةٍ حول قانون انتخابٍ لن يُغيّر شيئًا من تمثيلٍ حزبيٍّ ومذهبيٍّ موزّعٍ بحصصٍ ثابتة، أو حول حصصٍ في تعييناتٍ من هنا او هناك، أو بتصريحات عالية السقف حول سلاحٍ بات غائبًا فعلياً عن التأثير، منخفضة الصوت عن اعتداءات إسرائيلية يومية لا تتوقف، أو بنقاشٍ عقيمٍ حول ودائعَ "مقدّسة" فقدت قيمتها قبل أن تفقد قدسيّتها.
تتحرّك النخب اللبنانيّة، سياسيّةً وشعبيّةً، كأنّ العالم من حولها لا يتغيّر، وكأنّ الإقليم ينتظر من يتأخّر عن الركب. في ذلك غيابٌ للرؤية والحكمة والمسؤوليّة تجاه مواطنين فقدوا الكثير وهاجروا وأُفقِروا.
وفي اللحظة التي تتّجه فيها المنطقة إلى تفاهماتٍ اقتصاديّةٍ كبرى، يقف لبنان عاجزًا عن التفاهم على أيّ ملف، لا بين مكوّناته ولا مع محيطه الأقرب، لا مع سوريا، ولا مع العراق الذي يملك اليوم فائضًا ماليًّا واستعدادًا للتعاون. أما قرار دول الخليج فصار واضحًا: لا استثمار بلا أمنٍ وقضاءٍ وإصلاحات.
سوريا تتحرّك… ولبنان يتجمّد
على مقربةٍ من الحدود، تتحرّك سوريا بخطىً متسارعة لاستعادة موقعها الاقتصادي والسياسي في المشرق. فبعد سنواتٍ من الحرب والعزلة، عادت دمشق إلى استضافة الوفود وعقد الاتفاقات. وفي التاسع والعشرين من تشرين الأوّل 2025، جمع مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض الرئيس السوري أحمد الشرع ووليّ العهد السعودي محمد بن سلمان في جلسةٍ اقتصاديةٍ مشتركة حملت عنوان "الاقتصاد من أجل الاستقرار"، لتشير إلى مرحلةٍ جديدة من إعادة التواصل العربي مع سوريا عبر البوّابة الاقتصادية.
في تلك الجلسة أعلن الشرع أنّ بلاده جذبت نحو 28 مليار دولار من الاستثمارات خلال الأشهر العشرة الأخيرة، مؤكدًا أنّ سوريا دخلت مرحلة انفتاحٍ اقتصاديٍّ وإعادة إعمار. بدا الرقم سياسيًا بقدر ما هو اقتصادي؛ إذ أرادت به دمشق أن تقول إنها عادت لتكون جزءًا من الخريطة الجديدة، وأنها مستعدة لفتح أراضيها أمام شبكات النقل الإقليمي والمشاريع الخليجية والتركية المشتركة.
وفي الوقت الذي كانت فيه سوريا تفاوض على موقعها في ممرّات التجارة والطاقة، كانت تصدر قراراتٍ ماليةً داخليّةً غير مألوفة في توقيتها ولا في جرأتها. أبرزها القرار الذي أصدره مصرف سوريا المركزي بإلزام المصارف العاملة في البلاد بتغطية كامل انكشافها على القطاع المالي اللبناني خلال ستة أشهر؛ أي ما يعادل نحو 1.6 مليار دولار.
الخطوة بدت تقنية في ظاهرها، لكنها في جوهرها إعلانٌ سياسيٌّ بامتياز: فدمشق قالت، بلغة الأرقام، إن زمن الارتهان لمصارف بيروت انتهى، وإنّ الأموال السورية المجمَّدة أو المودعة هناك لن تبقى رهينة أزمةٍ لا تأثير لسوريا عليها. القرار، الذي أربك المصارف المشتركة وأثار استياءً في الأوساط اللبنانية، فُهِم في بيروت كرسالة ضغطٍ لإخراج المساهمين اللبنانيين وفتح الباب أمام رساميل جديدة محلية او عربية قريبة من السلطة في دمشق. لكنّ اقتصاديين سوريين رأوا فيه تحوّلًا بنيويًا نحو استعادة السيادة المالية وقطعًا لمرحلةٍ طويلةٍ كانت فيها سوريا تعتمد على النظام المصرفي اللبناني كمنفذٍ مالي وحيد نحو الخارج.
ولعل ضخّ 1.6 مليار دولار في السوق السوري خلال نصف عام، ولو جزئيًا، سيؤدي عمليًا إعادة تدوير السيولة داخل الاقتصاد الوطني، وتخفيف تبعيّته لنظام مصرفي فقد الثقة في لبنان. كما يعني أنّ دمشق قرّرت أن تواجه خسائرها بدلاً من أن تظلّ معلّقة بانتظار تسوياتٍ إقليمية أو تفاهماتٍ مالية لا تأتي. بعبارةٍ أخرى، قرّرت أن تتحمّل الخسارة كي تستعيد القرار.
في بلدٍ يعيش تحت الحصار والعقوبات، بدا هذا التصرّف نوعًا من التمرّد المحسوب: ففي حين يُنظّر جيرانه للإنقاذ، تُنفّذ سوريا خطّة فكّ ارتباطٍ تدريجي مع منظومةٍ مصرفيةٍ انهارت، لتقول إنها قادرة على اتخاذ قرارٍ صعبٍ ومكلفٍ، لكنها تملكه.
وهنا تكمن المفارقة: في دمشق تُدار الأزمة بالفعل، وفي بيروت تُدار بالكلام. فالأولى اختارت أن تنزف لتُنقذ ما تبقّى من جسدها المالي، والثانية تواصل إنكار النزيف وتكتفي بتغيير الضمادات.
لبنان الغائب عن كلّ طاولة
في المقابل، يبدو لبنان كأنه خرج من الخريطة. فبدلاً من أن يواكب التحوّلات الاقتصادية الإقليمية، يكتفي بالمراقبة والتعليق. لا رؤية تربط موانئه بالممرّات الجديدة، ولا خطة لدمج طرابلس -الميناء الطبيعي للعراق وسوريا- ضمن شبكات التجارة المتوسّطية. المنطقة الاقتصادية الشمالية تنتظرالتفعيل وفك الجماد عنها. والربط السككي متروك للوعود. وفي حين تبني دول الجوار خطوطًا تصل بين البحار، يبقى لبنان غارقًا في لجانٍ بلا مواعيد.
طرابلس، التي يمكن أن تكون اليوم محطةً لوجستيّةً رئيسة ضمن الممرّ التركي-الخليجي، تُترك نائمةً على البحر. لا قرار سياسياً يحرّكها، ولا رؤية اقتصادية تربطها بالمشاريع القائمة في مرسين أو الإسكندرون أو اللاذقية، حيث تتقاطع الاستثمارات الخليجية والتركية والآسيوية. في المقابل، تتحرّك سوريا لتستعيد مرافئها وتعيد وصل سككها بخطوط التجارة الإقليمية، في حين أنَّ العراق يمدّ طرقه نحو تركيا والخليج ويعرض شراكته. وحده لبنان يتعامل مع الجغرافيا كأنها عبء لا فرصة.
الحجاز يعود بلغة القرن الحادي والعشرين
ليس مصادفةً أن يُعاد إحياء الحديث عن سكة حديد الحجاز بعد أكثر من قرن. ففي أيلول 2025، أعلنت تركيا والأردن وسوريا بدء التنسيق لإعادة تأهيل الخط التاريخي وصولًا إلى الأراضي السعودية، في مشروعٍ تتداخل فيه السياسة بالدين، والتاريخ بالمستقبل. بالنسبة لأنقرة هو عنوان لـِ "العثمانية الجديدة"، وبالنسبة لدمشق نافذة عبورٍ نحو الاعتراف، وبالنسبة للرياض أحد المسارات الممكنة لربط المشرق بالخليج في إطار رؤية 2030.
الخط الذي كان يومًا رمزًا للاتحاد الإسلامي يتحوّل اليوم إلى شريانٍ اقتصاديٍّ عابرٍ للحدود، يُعيد وصل الجنوب بالشمال من دون المرور بإسرائيل. سوريا صعدت إلى القطار لأنها أدركت أنّ الجغرافيا يمكن أن تصبح رأس مال. تركيا تضع قضبانها في الأرض، والسعودية تموضع نفسها مركزًا للتكامل. أمّا لبنان، فيبقى على الرصيف، يراقب مرور القطارات ولا يملك تذكرة الدخول إلى المستقبل.
المشرق يعيد ترتيب نفسه بخطوطٍ من الحديد والنفط والموانئ، وسوريا الخارجة من الحرب تعرف أين تضع قدمها. العراق جاهز، والمطلب الخليجي واضح، والممرّات تُرسم من جديد. وحده لبنان ما زال ينظر من نافذته المغلقة إلى سكةٍ تمتد أمامه ولا يجرؤ على السير عليها. في هذا الزمن، من لا يملك طريقه لا يملك دوره. ومن لا يصعد إلى القطار في الوقت المناسب، سيبقى يسمع صفيره من بعيد.
