لبنان بين استراتيجيتي "الكيماوي" و"العفن"

مهند الحاج عليالأحد 2025/11/02
توم باراك (Getty)
لن يأتينا براك بصفقة خارج المطالب الإسرائيلية (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

"أمام الرئيس ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب فرصة أخيرة. فإمّا أن يتعلّموا من الماضي ويقرروا البدء بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل برعاية أميركية لوضع جدول زمني وآلية لنزع سلاح حزب الله، أو فسيُترك لبنان لمصيره، وسيبقى كذلك لوقت طويل، ولن يهتمّ به أحد، لا في الولايات المتحدة ولا في المنطقة، ولن يكون في وسع أحد أن يضغط على إسرائيل لوقف ما تراه ضرورياً من خطوات للمضي في نزع السلاح بالقوّة".

 

منطق المبعوث الأميركي الى لبنان وسوريا، السفير توم برّاك، ليس جديداً. ربما يحمل فجاجة يمتاز بها مبعوثو الرئيس دونالد ترامب، كونهم جاؤوا من خارج مدرسة الدبلوماسية، من عالم الأعمال والصفقات والاستثمارات العقارية حيث تحقيق الأرباح يُحيلك فقيهاً في كل الأمور. ما جاء على لسان برّاك وفي مبادرته، يُشبه الى حد كبير سياسة الرئيس دونالد ترامب تجاهنا في ولايته الأولى. حينها، كان جول رايبورن نائب مساعد وزير الخارجية السابق يتحدث مع الصحافيين عن "الكيمو-ثيرابي"، العلاج الكيماوي، للبنان. يُعالج لبنان بأسره من خلال عقوبات تهز كيانه علّ "حزب الله" يسقطـ أو يتأذى نتيجتها، على أساس المزاعم الإسرائيلية بأن التنظيم والبلد متلازمان، ومن الصعب الفصل بينهما.

طبعاً، العقوبات لم تؤد الى شيء. كان لها أثر سلبي على الاقتصاد، ولكنها والانهيار المالي أنجبا اقتصاد الكاش حيث تتزاوج عوالم الجريمة ومكاتب الصرافة والحوالات النقدية في ما بينها. هل حوصر "حزب الله" مالياً؟ لا، لكن العلاج الكيماوي قاد مصرفين لبنانيين الى الإفلاس، بنجاح.

 

نحن اليوم أمام واقع سياسي جديد. لدينا رئيس للجمهورية قدم خطاب قسم واضح في أولوياته وينص على حصر السلاح هدفاً للعهد. رئيس الحكومة ومجلس الوزراء بغالبيته مصممان على هذا الهدف، وصوّتا باتجاهه وطالبا الجيش بوضع خطة لتنفيذ الهدف وتقديم تقرير شهري في هذا السياق. كل ذلك وما زال برّاك يزعم بأن لبنان دولة فاشلة ولا يوجد فيها سوى "حزب الله" (وكأنه ناجح). الحقيقة هي أن المشكلة في الجانب الآخر، إذ أن إسرائيل ليست بوارد الانسحاب أو وقف استهدافها الأراضي اللبنانية يومياً، أو حتى الالتزام بجدول زمني يُلزم الطرفين بتنفيذ المطلوب منهما، وبإشراف أميركي. المطلوب هو أن يصطدم الجيش اللبناني بحزب الله عسكرياً، وتدخل البلاد في حلقة توترات أمنية داخلية، فيما تفعل إسرائيل ما تُقرره وتريده. هذا "علاج كيماوي" من صنف آخر رغم أن برّاك يُفضل القول إننا نبقى في مكاننا، أي نتعفن ببطء (استراتيجية العفن).

 

والواضح اليوم أن إسرائيل تريد منطقة عازلة في جنوب لبنان لا سكان فيها على الإطلاق، بل تتحدث من خلال الوسطاء عن منطقة اقتصادية حرة تُدار من خلال مجلس إسرائيلي-لبناني مشترك، ولا يأتي ذلك على ذكر المواطنين اللبنانيين وعودتهم لبلداتهم. إسرائيل تُريد منطقة خالية من السكان على حدودها على المديين القصير والمتوسط، وهذه المنطقة لن تكون جزءاً من السيادة اللبنانية بأي حال.

إذاً، ما هدف التفاوض المباشر؟ لا شيء. فقط صورة نصر جديدة تُضاف الى كاتالوغ إسرائيل ووسطاء الإدارة الباحثين دوماً عن انتصارات صغيرة لهم.

 

لن يأتينا برّاك بصفقة خارج المطالب الإسرائيلية، لسبب واحد هو أن أي عرض اتفاق خارج شروط حكومة نتنياهو يحتاج الى ضغط من الإدارة الأميركية، والأخيرة ليست بهذا الوارد حالياً. أنجز ترامب ما يريده في المنطقة، وحصل على صورة النصر بخروج الرهائن الإسرائيليين، ومن ثم ترك بقية الاتفاق لشياطين التفاصيل الكثيرة، وفقد الاهتمام. برّاك اليوم يُعيد لفظ المطالب الإسرائيلية، كل يوم بطريقة مختلفة، على طريقة الذكاء الاصطناعي، من دون أي جديد. 

لذلك تجد الحكومة نفسها اليوم أمام مسارين. الأول تخطه إسرائيل التي تُنفذ شروطها باستكمال إخلاء المناطق الحدودية جنوباً من السكان، وعمليات القصف اليومي التي تُحيل البلد بأسره الى جمود اقتصادي ومالي. الثاني لـ"حزب الله" المصمم على إعادة بناء قدراته، ربما من أجل تصحيح المسار مع إسرائيل على أرض المعركة واستعادة بعض الردع الذي خسره بالكامل في الحرب الماضية. وهذا أيضاً مسار تدميري شامل للجنوب والبلاد بأسرها.

 

الوقت ليس في صالح الحكومة أو العهد. من الضروري المبادرة باتجاه دول خليجية فاعلة في واشنطن لحضها على الضغط على إسرائيل لتنفيذ المطلوب منها لجهة الانسحاب ووقف الأعمال العدائية، مقابل خطوات فاعلة لحصر السلاح. وإذا فشل هذا المسار، علينا قرع أبواب أخرى. الصمت أو الانتظار يعني عملياً إما السماح لإسرائيل بالتطهير العرقي لأجزاء من جنوب لبنان، على غرار غزة والضفة الغربية، والحفاظ على جمود لبنان ضمن استراتيجية "العفونة" البرّاكية، أو إعادة احياء "حزب الله" ومعادلاته الكارثية. كل من هذين الطريقين محفوف بالخراب، والمطلوب اجتراح مسار جديد باتجاه اتفاق دائم يضمن عودة اللبنانيين لقراهم، وإقفال بوابة العبث بأمننا ومستقبلنا.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث