في الشرق الأوسط الجديد الذي يتشكّل بعد حرب غزة، كل القوى تعيد التموضع: دولٌ تفاوض، تنظيمات تعيد الحسابات، ومحاور بكاملها تتهاوى أو تتحوّل. وحده لبنان يبدو عالقاً في الزمن، تحت عنوان واحد لم يتبدّل منذ عقود: سلاح حزب الله.
لكن السؤال اليوم لم يعد تقنياً أو قانونياً؛ بل استراتيجي بامتياز: ماذا ينتظر الحزب ليصبح حزباً سياسياً صرفاً، بلا سلاح، في منطقة تغيّر وجهها بالكامل؟
بعد غزة: الهزيمة التي أغلقت زمن المقاومة المسلحة
انتهت حرب غزة، تحت غطاء أميركي–عربي–إسلامي، بوقف إطلاق نار بدا في جوهره اتفاقاً لإعادة صياغة المنطقة لا لوقف الدم. فالاتفاق الذي فرض على حركة "حماس" تضمّن عملياً تفكيك بنيتها العسكرية وتسليم سلاحها، مقابل ترتيبات إنسانية واقتصادية ووضع القطاع تحت إدارة دولية.
بهذا المعنى، إنهاء الحرب في غزة كان إعلاناً عن نهاية مرحلة "المقاومة المسلحة" خارج سلطة الدول. ومن تلك اللحظة، وجد "محور المقاومة" نفسه في موقع الخاسر استراتيجياً، حتى وإن لم يُهزم ميدانياً على نحوٍ تقليدي.
في هذا السياق، بات لبنان محطّ الأنظار. فـَ "اتفاق وقف الأعمال العدائية" الذي وُقّع قبل سنة بين إسرائيل ولبنان أتى ليكرّس هذا التحوّل: للمرة الأولى يُذكر في نصوص الاتفاق بند واضح حول "تسليم سلاح حزب الله ابتداءً من جنوب الليطاني" بوصفه مدخلاً لترتيبٍ أوسع. ومع أن الحزب قبل بمقترحات هذا الإتفاق فهو من فاوض عليه فعلياً، ووضعه عملياً أمام لحظة مصيرية، فإنه وبعد عام لا يزال يوارب، ويرفض فكرة تسليم سلاحه على الرغم من وجود قرار حكومي بهذا السياق. كما يخرج مسؤولوه ويفاخرون بإعادة بناء القدرات والتعافي.
اتفاق بلا التزام… وحرية إسرائيلية مطلقة
لكن الوقائع على الأرض تسير في اتجاهٍ معاكس تماماً. فإسرائيل لم تلتزم بالاتفاق، لا نصاً ولا روحاً. منذ توقيع وقف الأعمال العدائية، واصلت خروقاتها اليومية للمجال الجوي اللبناني، ونفّذت عمليات اغتيال مركّزة ضد كوادر من حزب الله على كافة الأراضي اللبنانية، وسط صمت دولي مريب.
الذرائع جاهزة: "منع الحزب من إعادة ترميم قدراته العسكرية"، وهو شعار يتيح لتل أبيب ممارسة حرية ميدانية كاملة من دون أي ردّ من المجتمع الدولي. عملياً، تحوّل الاتفاق إلى غطاءٍ قانوني للعنف الانتقائي، في حين تُبقي إسرائيل على احتلالها لنقاط عسكرية داخل الأراضي اللبنانية، وترفض الانسحاب منها بذريعة أن "السلاح لم يُسلَّم بعد".
هذه المعادلة تضع لبنان في وضعٍ بالغ الهشاشة: الدولة عاجزة عن فرض السيادة، والحزب محاصر بالضغط السياسي والإعلامي، والجيش مكبَّل بقيود الاتفاق نفسه.
ما يجري اليوم في لبنان لا يمكن فصله عن السياق الأوسع. فوقف الحرب في غزة لم يكن خطوة إنسانية؛ بل جزءاً من صفقة إقليمية يراد لها أن تُغلق ملفات الصراع القديمة. تحت المظلّة نفسها، تتحرك واشنطن وعواصم أخرى نحو هندسة "نظام استقرار" جديد، أساسه تحييد الأذرع العسكرية غير النظامية.
بهذا المعنى، الضغوط على حزب الله ليست قراراً إسرائيلياً معزولاً؛ بل جزءاً من منطقٍ أوسع: إقفال مرحلة "المقاومة" بوصفها نموذجاً عسكرياً. وتُترجم هذه الضغوط في لبنان عبر دبلوماسية متعدّدة المستويات مالية، إعلامية، وأمنية ، تهدف إلى دفع الحزب للتخلي عن سلاحه من دون أيّ مقابل فعلي.
تسريبات هيئة البث الإسرائيلية الأخيرة، تدخل تماماً في هذا الإطار. فالحديث عن استمرار تهريب السلاح من سوريا، وعن أن إسرائيل تبحث تكثيف هجماتها في لبنان، في ضوء محاولات حزب الله تعزيز قوته، ليس سوى رسالة مزدوجة: تبرير توسيع العمال العدائية الإسرائيلية من جهة، وتعزيز الضغط الدولي على بيروت من جهة ثانية، تمهيداً لمفاوضات لاحقة يريدها الإسرائيلي والأميركي مباشرة، يكون عنوانها الأساس نزع السلاح.
الدولة المقيّدة والحزب المأزوم
الحكومة اللبنانية برئاسة نواف سلام تبدو عاجزة عن فرض أيّ إيقاع سياسي مختلف. رئيس الجمهورية جوزاف عون يحاول اعتماد خطاب وطني متوازن، لكن صلاحياته الفعلية محدودة أمام شبكة الضغوط الخارجية والانقسام الداخلي.
أما داخل لبنان، فالمشهد السياسي منقسم على نفسه: جزء واسع من الطبقة السياسية يرى في تسليم سلاح الحزب شرطاً لعودة الدولة، في حين يعتبر حزب الله أن الدولة نفسها لا تملك المقوّمات الكافية لاحتواء هذا السلاح. وفي هذا السياق يقول المحلل السياسي الدكتور قاسم قصير لـِ "المدن" إن "حزب الله نشأ بوصفه مقاومةً، وعلى مدار ثلاثة وأربعين عاماً تحول إضافة إلى دور المقاومة إلى دور سيساسي اجتماعي وثقافي. حالياً ما تبقى من السلاح موجود بسبب الاحتلال الاسرائيلي وتخوف من هجوم اسرائيلي جديد في ظل عجز الدولة والجيش اللبناني من حماية المواطنين. ما دام هناك احتلال تكون حاجة للسلاح، لكن إذا انسحب الإحتلال وتوقف العدوان وعاد الأسرى وبدأ الإعمار، وهي شروط حزب الله، فلا مشكلة في بحث الاستراتيجية الدفاعية لأن لدى الحزب قوة يمكن استخدامها مستقبلاً". يضيف قصير: "في رأيي الشخصي لم يعد لحزب الله أي دور اقليمي. لذلك، لم يعد السلاح هدفاًَ أو أساساً، فإذا توافرت الظروف يصبح مثل كل الأحزاب الأخرى". وهل يمكن لحزب بدأ بوصفه مقاومة مسلحة أن يتحول إلى العمل السياسي فقط؟ يجيب قصير: "طبعاً يمكن ذلك. والمثال هو القوات اللبنانية التي بدأت بوصفها تنظيماً عسكرياً وأصبحت حزباً سياسياً، على الرغم من أنني مقتنع أنه لا يزال لديهم أمن وسلاح".
النتيجة: لا الدولة قادرة على تسلم السلاح، ولا الحزب مستعد لتسليمه، في حين أنَّ الواقع يتآكل ببطء.
في العمق، يواجه حزب الله مأزقاً مزدوجاً. فمن جهة، هو لا يستطيع الاحتفاظ بالسلاح إلى ما لا نهاية؛ إذ باتت كلفته السياسية والأمنية والاقتصادية أكبر من مردوده. ومن جهة ثانية، التخلي عنه من دون ضماناتٍ حقيقية يعني خسارة عنصر الردع الوحيد الذي يبرّر وجوده. في هذا التوازن الدقيق يعيش الحزب اليوم مرحلة انتظار، أشبه بوقف إطلاق نار طويل داخله أكثر مما هو مع إسرائيل.
البعد الإقليمي يزيد التعقيد. فإيران، التي تمثّل الرافعة الاستراتيجية للحزب، لم تدخل حتى الآن في مفاوضات بعد حرب الاثني عشر يوماً، وترفض الشرط الأميركي الرئيسي: “صفر تخصيب”. هذا الرفض يُبقي طهران خارج مسار التسويات الجارية، ويمنح حزب الله مبرراً إضافياً للتمسّك بموقفه. فالتخلي عن السلاح من دون غطاء إقليمي يعني الدخول في عزلة مزدوجة: داخلية وخارجية.
لكن في الوقت نفسه، غياب إيران عن طاولة المفاوضات يجعل الحزب مكشوفاً أمام الضغوط المباشرة، من دون وساطةٍ توازن المعادلة. بهذا المعنى، لم يعد حزب الله امتداداً لقرارٍ إيراني فحسب؛ بل ضحية غيابه أيضاً.
لبنان في قلب معادلة جديدة
من الواضح أن المنطقة تتجه إلى مرحلة تفاوض شاملة: من اليمن إلى سوريا، مروراً بفلسطين والخليج. وحده لبنان لا يزال خارج هذه المعادلة، إما لعجزه، أو لإصرار بعض أطرافه على انتظار ما لن يأتي. الضغوط على بيروت ستستمر في التصاعد، سواء عبر الإعلام الإسرائيلي أو عبر القنوات الدبلوماسية، إلى أن يتبلور حلٌّ واحد: تسليم السلاح قبل أيّ تفاوض سياسي جديد.
وفي ظل هذا المناخ، يواجه حزب الله سؤالاً غير قابل للتأجيل: هل يمكنه الاستمرار في تبرير سلاحه في حين أنَّ محور المقاومة خسر الحرب، وحلفاؤه يفاوضون على شروط بقائهم؟ هل يمكنه الاحتفاظ بأدوات القوة في لحظةٍ تتحوّل فيها المنطقة إلى ميدان لتسويات تُفرض من الخارج؟
لا يبدو أن حزب الله ينتظر حدثاً محدداً ليُسلم سلاحه. ما ينتظره هو معادلة تتيح له البقاء السياسي من دون أن يُستأصل أمنياً أو يُهمّش وطنياً. لكنه يدرك في الوقت نفسه أن البيئة التي حمت سلاحه منذ نشأته بدأت تتراجع. إسرائيل تملك حرية الحركة، والغطاء الإيراني يضيق، والضغوط الدولية تتكثّف، والدولة اللبنانية غارقة في العجز.
في لحظة كهذه، يصبح السلاح عبئاً أكثر منه رصيداً، لكنه في غياب أي ضماناتٍ واقعية يبقى بالنسبة إلى الحزب صمام أمانٍ لا يمكن التفريط به.
في نهاية المطاف، قد لا يكون السؤال ماذا ينتظر حزب الله؛ بل ماذا ينتظر لبنان نفسه: هل يدخل زمن التفاهمات الكبرى، أم يبقى الاستثناء الوحيد في شرقٍ يعاد رسمه .
