يتحرك موضوع الكيان اللبناني بين حدّين: حد منع التسوية، وحدّ امتناعها. المنع هو فعل الخارج المتداخل، الإقليمي والدولي. والامتناع هو فعل الداخل، المتداخل والمتخارج عشوائياً، وغير المستقرّ على قاعدة هدوء راسخ من سنة 1920 وحتى تاريخه، وربما إلى أمَدٍ غير معلوم.
جملة صناعة التسوية المتداولة، لا يضيف طالبوها عاملاً مساعداً يخفف من وطأة تداخلاتها الثقيلة. الخطاب اليوم هو لأطراف القوى السياسية المتنابذة، بات مكروراً إلى حد استحلابه، وبات ممجوجاً إلى حد الاشمئزاز من رطانة أصوات أصحابه.
تحمل صعوبة الوضع اللبناني القول إلى الوقوف أمام العامل الخارجي الذي بات حاسماً، بالنظر إلى اختلاط السياسات العالمية وإلى اضطراب علاقاتها وتحالفاتها وخصوماتها.
ليس سرّاً؛ بل هو أرسخ من معلوم، انتظار ما يربو على نصف لبنان، ما يصدر عن المحافل الخارجية، وارتقاب ما قد تكون عليه سياساتها في المكانية اللبنانية. ليس سرّاً؛ بل هو شائع ومتداول ومنقول، انتظار ما تبقى من السكّان غير المتساكنين، لما يصدّر عن "محافل" خارجية أيضاً، دعماً لأطروحة أهلية، أو مناوأة لها، أو تدويراً لزواياها.
العربي، الذي يعطى اسم عمق لبنان، يطفو على سطح عمقه أحياناً، ويختفي في عتمات لجّته أحياناً أخرى. رفع الرأس فوق سطح الماء، أو إخفاؤها تحت هذا السطح، تُمليه ضرورات ومحاذير المدّ الخارجي، وشدّة عصف رياحه، أو هدأة هذه الرياح.
من مقدمة الإشارات إلى متنها. من الخارج جملة، إلى الخارج تحديداً. جهاراً نهاراً، يحتل الأميركي المقعد المتقدم في قطار التدخل الخارجي؛ بل لعله سائقه، لذلك تصير العناية المدققة بالأميركي الشامل، حاجة ضرورية "لفهم" الأميركي، في لبنان، وفي سائر المنطقة العربية.
ما دام الأمر أمر "الإسلام السياسي" عموماً، في البلاد العربية، وأمر الإسلام الشيعي السياسي في لبنان، وفي إيران، وفي عدد من العواصم العربية، ما دام الأمر كذلك، تقتضي القراءة اللبنانية للاسم الشيعي السياسي هنا، إمعان النظر في رؤية أميركا لدور ووظيفة الإسلام الشيعي، هناك، وبقول مختلفٍ محدد، ماذا عن أميركا والإسلام السياسي عموماً اليوم، لنقول عن أميركا والإسلام السياسي بشقيه، السنّي والشيعي، في لبنان وفي إيران وفي المحيط العربي الذي هزّت كيانه انقلابات سياسية واسعة.
إلى "الأمسَين"، القريب منهما والبعيد، تعود الذاكرة إلى توظيف السياسة الأميركية للإسلام السياسي في أكثر من بلد. أفغانستان كانت مثالاً، عندما كان الصراع البارد دائراً بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي الآفل، كان هذا تشغيلاً للسنية السياسية، انهارت ركائزه بعد غزوة نيويورك سنة 2001، ثم جرى استبداله بالشيعية السياسية، عندما جيء بإيران إلى العراق، وعندما سُمِحَ لها بمد نفوذها إلى سوريا ولبنان واليمن وفلسطين. هو التوظيف إذن، الذي جمع بين رعاية وغض نظر وسماح، من السودان إلى فلسطين، مروراً بمصر والجزائر وتونس وليبيا... وغزّة، حتى ارتكبت حماس ما ارتكبت في "طوفانها".
لماذا هذا الاستعراض؟ للقول إن العامل الخارجي الدولي، بقيادة الأميركي، هو المسؤول الأول عن "التحالف" مع الإسلام السياسي بكل "فصائله"، وهو المتحرّك الأول اليوم، من أجل تقليم أظافر من استظلّ فيْأه من دول ومن تنظيمات ومن قوى أهلية. إذن نحن في إزاء سياسة تقليص أدوار، ولملمة انفلاشات، ورسم حدود، لأن التوظيف السياسي الأميركي استنفد الجوهري من أهدافه، لذلك فقدت الأنظمة الطامحة الجوهري من نفوذها، واستفاقت على أوهام أدوار كبرى، وها هي اليوم مطالبة، من الأميركي ذاته، بلملمة فلول انتشارها والعودة إلى ديارها الأصلية.
ما الذي يمكن استنتاجه لبنانياً، من حقيقة الإدارة الدولية للأوضاع الإقليمية العامة، وللوضع اللبناني من ضمنها؟ الخلاصة الأولى هي أن الأميركي لم يسرّح "موظفيه" تسريحاً تاماً؛ بل هو يعيد جمعهم في ملعب وظائفه، لذلك، يجب ألاّ يسترسل القوم في تعليق الأحلام الاستقلالية الكبيرة، على من كان الأساس في ضياع ما كان لهم من استقلالية قليلة. بالتعريف، مطلب نزع السلاح من حزب الله اللبناني، بواسطة اللبنانيين أنفسهم، هو وصفة حرب أهلية داخلية واضحة، وبالأسماء، مصير النظام الإيراني غير مطروح على طاولة التغيير، لذلك، فأمر سلاح حزب الله، ما زال عنصر مساومة في يد ذلك النظام غير المراد تغييره. ماذا يعني؟ يعني ببساطة، إن الأميركي يضمر للبنان شرّ الفوضى، ويحيل نار الشرّ إلى العدوانية الإسرائيلية، وهدفه استمرار الضغط على إيران لفرض التنازل على نظامها، لأنه تكراراً لا يريد تغييره. بوضوح متقدم، لبنان ورقة، ورقة ضغطٍ في يد الأميركي، وورقة مساومة في يد الإيراني، لذلك فهو ملعب أميركي – إيراني، تعبث به كل العدوانية الإسرائيلية.
يطرح السؤال الاستطرادي، ماذا عن الدور العربي وسط هذه العاصفة الدولية؟ الجواب الذي سمعه الجميع وعلى ألسنة الجمع العربي، هو السعي إلى السلام، عبر هدنة في غزّة، والفوز بهدوء في لبنان، من أجل استكمال عملية التفاوض على التطبيع الذي صار مطلباً أميركياً توظّف نتائجه في سياق الخطة الأميركية العامة، التي تسعى إلى استعادة الهيمنة عالمياً، وتسعى إلى محاصرة البعيدين الصيني والروسي، عبر ضرب طوق المصالح والنفوذ، عندنا كما في أكثر من قارّة عالمية.
خلاصة العربيّات، لقد ولّت إلى زمن بعيد، مسائل الكفاحية الماضية ووسائلها، والسياسة المقبولة هي تلك التي تتخلص من "ترسُّبات النضالية" في فلسطين وفي لبنان، والواقعية المستجدّة، باتت شبه أحاديّة القراءة؛ إذ إن أصحابها يقرأون في كتاب "فن الممكن" الممكن كما هو، من دون السعي إلى شروط تحسينه.
وما دامت الحال هي الحال، ماذا سيفعل اللبنانيون واقعيّاً؟ أي ما سياساتهم وهم يواجهون واقع الحال الموصوف عالميّاً ومحيطيّاً؟ حتى اللحظة الراهنة، يظهر الطيف السياسي العام لا مبالاة بمراقبة ما حوله، ويظهر تسليماً لمشيئة ما يأتي من غرب ومن شرق، ويستبسل الطيف في سبيل صناعة الخلافات، وفي استثارة العصبيّات، ويمتنع امتناعاً مدهشاً عن مقاربة التسويات، هذا في حين ينصرف النخبويون، إن وجدوا، إلى تسييل الوقت بالردّ على ما يصدر عن "السيادي"، وبتفنيد حجج ما يندّ عن "المقاوم". أما قول النخبويين الخاص، الذي ينشغل بصياغة عناوين ما يصلح لأن يشكل مادة تسوية واقعيةٍ واقعية، هذا القول دخل في غياب مزمن، وصار إلى غيبوبة سياسية لم تحمل إلى رؤوس أصحابها غير الدوار، وغير الدوران.
