مع اقتراب الاستحقاق النيابي في ربيع 2026، يعود إلى الواجهة أحد أكثر بنود قانون الانتخابات اللبناني إثارةً للجدل: حق اللبنانيين غير المقيمين في الاقتراع، وكيفية تنظيم مشاركتهم من الخارج أو عبر العودة إلى لبنان.
فبعد تمسُّك رئيس مجلس النواب نبيه بري بـِ «تجميد» البحث في تعديل القانون النافذ للسماح للمغتربين بالتصويت لمرشحي الـ 128 مقعدًا في دوائرهم الأصلية، وليس لمرشحي مقاعدٍ ستة في الدائرة السادسة عشرة الإضافية، بالرغم من توقيع 67 نائبًا على عريضة نيابية تطالب بذلك، تصاعدت الاتهامات بين الكتل النيابية بشأن نية حرمان المغتربين من حقهم في المشاركة الفعلية.
ديكور وتغيير قبّعات!
القرار أثار اعتراضات واسعة في الأوساط السياسية والشعبية، ليس فقط لأنه يمنع مشاركة المغتربين في دوائرهم الأصلية، ويحوّلهم إلى مجرّد ديكور انتخابي لا يغيّر شيئًا في النتائج؛ بل لأنه يكشف عن خلطٍ خطير بين موقع رئيس المجلس بوصفه رئيساً للسلطة التشريعية يُفترض به أن يدير البرلمان بحيادية معقولة، وموقعه بوصفه رئيسَ كتلة سياسية وزعيماً لـِ «حركة أمل».
فحين يُجمِّد رئيس المجلس مناقشة اقتراح مُقدَّم وفق الأصول ولا يُدرجه على جدول الأعمال لأنه لا يوافقه سياسيًا، ولا يطرحه على تصويت المجلس «السيّد لنفسه»، فهو إنما يبدّل قبّعته ويتصرّف بصفته الحزبية لا المؤسسية، وهذا ما يشكّل إخلالًا واضحًا بروح النظام الداخلي لمجلس النواب، ومبدأَي الفصل في الصلاحيات وبين السلطات.
إلا أن موقفه الأكثر ابتعادًا عن روح التشريع، تجلّى حين دعا علنًا الأحزاب المعترضة لإبقاء الدائرة السادسة عشرة إلى نقل ناخبيهم من الخارج إلى لبنان للمشاركة في التصويت «إسوةً بالناخبين المقيمين».
عبارةٌ تبدو للوهلة الأولى دعوة ديمقراطية لتفعيل المشاركة، لكنها إضافة إلى كونها تنمّ عن ضيق صدر بتصويت غير المقيمين أساسًا، وتنمّ عن نية بالتراجع عن تسليمه بحقهم، إلا أنها تفتح في العمق ملفًّا قانونيًا بالغ الحساسية:
هل يمكن اعتبار نقل الناخبين من الخارج على نفقة الأحزاب أو المرشحين ممارسة مشروعة؟ أم هي رشوة انتخابية علنية مغلّفة بعنوان «تسهيل المشاركة»؟
خلفية الجدل الدستوري والسياسي
ينصّ قانون الانتخاب رقم 44/2017 في مادته 122 على إنشاء «دائرة انتخابية خاصة بغير المقيمين» تضم ستة مقاعد موزعة طائفيًا وقارّيًا.
لكن معظم الكتل النيابية المعارضة، تطالب بتعليق العمل بهذه الدائرة أو إلغائها، وإبقاء حق المغتربين في التصويت لمرشحي الـ128 مقعدًا في دوائرهم الأصلية، كما جرى في انتخابات 2018 و2022. في المقابل، يصرّ «الثنائي الشيعي» (حركة أمل وحزب الله) ومعه «التيار الوطني الحر» على تطبيق الدائرة السادسة عشرة بدءًا من 2026، وهو ما تعتبره الكتل الأخرى تقليصًا لوزن الناخبين في الخارج وحصرًا لصوتهم بستة مقاعد رمزية.
وسط هذا الانقسام، طرح الرئيس بري حلًّا «براغماتيًا» بقوله: «مَن أراد أن يصوّت في لبنان، فليُحضر ناخبيه من الخارج كما نفعل نحن». لكن هذه العبارة، التي تبدو على السطح دعوة مفتوحة للمساواة، تحمل إشكالية قانونية خطيرة حين تُقرأ في ضوء قانون الانتخاب نفسه.
الإطار القانوني – بين المواد 58 و 62 وقانون العقوبات
من المهم الإشارة إلى أن المادة 58 من القانون تعتبر «نفقات انتقال الناخبين من الخارج إلى لبنان» من النفقات الانتخابية المشروعة التي يمكن للمرشح أن يتكبدها ويصرّح عنها في بيانه المالي أمام هيئة الإشراف على الانتخابات. لكن هذه المادة لا تمنح شيكًا على بياض. فمجرد كون النفقة «مشروعة» لا يعني أنّها خالية من شبهة التأثير على إرادة الناخب، خصوصًا إذا كانت تستهدف فئة محددة من المؤيدين، أو تربط السفر بخيار سياسي محدد.
في المقابل، تنصّ المادة 62 بوضوح على حظر الالتزامات والنفقات التي تتضمن تقديم خدمات أو دفع مبالغ للناخبين. والمادة 65 تحيل المخالفات إلى النيابة العامة المختصة إذا تبيَّن أنه ينطبق عليها وصف الجرم الجزائي. وتعاقب المخالفين بالحبس لمدة أقصاها ستة أشهر وبغرامة تتراوح بين (خمسين مليون ليرة لبنانية ومائة مليون ليرة لبنانية)، أو بإحدى هاتين العقوبتين وذلك دون المساس بالعقوبات التي تتناول جرائم جزائية منصوص عليها في قانون العقوبات وفي القوانين الجزائية الخاصة. وتعتبر صرف النفقات الانتخابية المحظورة المشار إليها في المادة 62 بمنزلة جرم الرشوة المنصوص عليه في قانون العقوبات. وتطبق العقوبات على الشخص المعنوي وفقاً للمادة 210 من قانون العقوبات.
المادة 331 من قانون العقوبات تنصّ على أن:
«مَن حاول التأثير في اقتراع أحد اللبنانيين بقصد إفساد نتيجة الانتخاب العام: إما بإخافته من ضرر يلحق بشخصه أو عائلته أو مركزه أو ماله أو بالعروض أو العطايا أو الوعود أو بوعد شخص معنوي أو جماعة من الناس بمنحٍ إدارية يعاقَب بالحبس من شهر الى سنة وبالغرامة من (مئة ألف ليرة الى مليون ليرة). ويستحق العقوبة نفسها من قَبل مثل هذه العطايا أو الوعود أو التمسها».
وهنا المفارقة:
-
المادة 58 تنظّم الجانب الإداري والمالي (أي كيف تُحتسب النفقات المشروعة)،
-
في حين أنَّ المواد 62 و 65 من قانون الانتخابات والمادة 331 من قانون العقوبات تعالج الجانب الجزائي والأخلاقي (أي النية والغرض من الإنفاق).
إذن، ما يعتبره البعض «نفقات مشروعة» في المادة 58 يمكن أن يتحوّل إلى «رشوة انتخابية» بموجب المادتين 62 و65، إذا ثبت أن الهدف منه التأثير في إرادة الناخب أو توجيه صوته. وبالتالي، فإن الإنفاق بحد ذاته لا يُعدّ جريمة، لكن النية والتمييز في تقديمه هي التي تحدّد ما إذا كان نفقات مشروعة أم رشوة انتخابية مقنّعة.
متى يُعتبر نقل الناخبين رشوة انتخابية؟
مفارقة ثانية: مَن يرفض تعديل القانون لتوسيع مشاركة المغتربين، بحجة «احترام القانون النافذ»، هو نفسه مَن يدعو إلى تجاوز روحه ونصّه عبر حثّ الأحزاب على نقل ناخبيهم من الخارج. وعليه، فإنّ أي تمويل موجّه أو انتقائي لسفر الناخبين من الخارج، إذا كان الهدف منه تعزيز أصوات لائحة معيّنة، يقع حكماً ضمن دائرة المادة 331 عقوبات.
أما إذا نُقل على نحوٍ عام وشفاف، عبر هيئة محايدة وبتمويل مصرّح عنه ومتاح للجميع من دون تمييز، فيمكن اعتباره نفقة انتخابية مشروعة لا تخالف القانون.
Déjà vu
خلال انتخابات 2018، رُصدت حالات واسعة لتمويل سفر جماعي لناخبين من أستراليا وأفريقيا والخليج على نفقة مرشحين أو أحزاب. وبالرغم من توثيق هذه الحالات، لم تُسجّل ملاحقات جزائية بسبب غياب الأدلة المباشرة، لكن هيئة الإشراف على الانتخابات اعتبرت أن هذه الممارسات «تؤثر جوهريًا في حرية الناخبين وتشكّل شكلًا من أشكال شراء الولاء السياسي».
وفي انتخابات 2022، تكرّر المشهد مع شركات طيران وحجوزات جماعية لناخبين من بلدان محددة، فوصفت الهيئة هذا التمويل بأنه «من أشكال التأثير المالي والسياسي غير المشروع»، ودعت إلى اعتماد الاقتراع في بلدان الإقامة لتجنّب هذا النوع من التجاوزات.
فوفق التفسير الذي اعتمدته الهيئة، فإنّ تسديد كلفة النقل أو السفر يدخل في باب الرشوة إذا كان الهدف منه التأثير في خيار الناخب أو استمالته، سواء على نحوٍ مباشر أو غير مباشر.
المادة 58 بوصفها ذريعةً؟
في حال لجأت القوى السياسية إلى الاستناد إلى المادة 58 لتبرير تمويلها رحلات انتخابية من الخارج، فإنّ هيئة الإشراف على الانتخابات ستكون أمام اختبار حقيقي في تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين، المنصوص عليه في المادة 68 من القانون. فالسماح لأحزاب تمتلك موارد مالية ضخمة بتمويل آلاف التذاكر سيقوّض عمليًا هذا المبدأ، ويفتح الباب أمام تفاوت خطير بين المرشحين، وربما أمام «تعويم مصطنع» للكتل التقليدية على حساب القوى الإصلاحية والمستقلة.
معضلة دستورية وأخلاقية
ما يقوله القانون وحده لا يكفي لتبرئة أو تجريم الفعل؛ فالأهم هو النية والمساواة والشفافية. وهي مبادئ أكّد عليها الدستور. ففي بلدٍ يعاني من ضعف مؤسسات الرقابة الانتخابية، لا يمكن اعتبار تمويل نقل الناخبين من الخارج على نفقة المرشحين أو الأحزاب عملاً بريئًا أو «مساعدة إنسانية»، خصوصًا إذا كان الهدف منه تعويض حرمان قانوني متعمّد ناتج عن قرار سياسي بإغلاق باب تعديل القانون.
بعبارة أخرى، إنها ممارسة غير متكافئة قانونيًا وأخلاقيًا، ولا يجوز أن يتحوّل الحق الانتخابي للمغترب إلى سلعة سفر تُقدَّم لمن يستطيع أن يدفع ثمنها، أو إلى أداة ضغط سياسي تستخدمها القوى القادرة ماليًا، بينما يُحرم الآخرون من الإمكانية نفسها.
حاشية للإنتباه
إذا لسببٍ ما أُلغي إجراء الانتخابات في الخارج، من دون تعديل القانون وإلغاء المادة 111 التي تحفظ حق غير المقيمين في الاقتراع في مراكز انتخابية في السفارات والقنصليات وغيرها في الخارج، نكون أمام خطر الطعن في كامل العملية الانتخابية العتيدة أمام المجلس الدستوري.
خلاصة
إنّ منع تعديل قانون الانتخاب، مع دعوة الأحزاب إلى «نقل ناخبيهم من الخارج»، قد يقود فعليًا إلى إلغاء حق غير المقيمين في الاقتراع في الخارج بالكامل، وتحويل المشاركة إلى امتياز لمن يستطيع أن يدفع ثمن السفر. وذلك يشكّل نكسة كبرى لمسار الإصلاح والمكتسبات الديمقراطية التي تحققت منذ عام 2018.
وهنا يبرز السؤال الذي لا يمكن تجاهله:
هل يقبل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، اللذان يرفعان شعار الإصلاح صباحًا ومساءً، بهذه النكسة؟ فالانتخابات ليست مجرد موعد مع صناديق اقتراع؛ بل منظومة قيَم متكاملة تحكم نزاهة العملية الديمقراطية. وحين يصبح الصوت الانتخابي مرتبطًا بتذكرة سفر مدفوعة، نكون قد قفزنا، برلمانًا وحكومةً وعهدًا، خطوة كبرى إلى الوراء!
