شيخ نعيم، أتوجّه إليك ككيميائي، وهي مادّة تحكمها قاعدة بسيطة وواضحة: لا شيء يُستحدث، لا شيء يَفنى؛ كلّ شيء يتحوّل. والسياسة شأنها شأن العناصر، فالدول، والمنظّمات، والأنظمة، كلّها عناصر في مختبر النظام الدولي؛ تتفاعل لتتحوّل من حالة إلى حالة أخرى. والتحوّل هو قانون حتميّ لا اختياري: فكما أن الاحتكاك بين العناصر الكيميائية هو دائم ولا يهدأ، كذلك في السياسة يستمرّ الاحتكاك بين اللّاعبين، ما يفرض التحوّل.
مخاطبتك بصفتك رجل كيمياء يُضفي طابعاً إنسانياً عليك بدل الطابع الديني-السياسي المقدّس. من هنا يصبح الإحتكام إلى العقل ممكناً، والمساءلة ممكنة من دون تخوين وصهينة وإملاءات.
التحوّل شرط بقاء وليس رفاهية، والبقاء أفق واستدامة. ولطالما تساءلتُ ما هو أفق مشروع حزب الله؟ لم أجد يوماً جواباً. فقبل أن تقولوا "طزّ بالنظام الدولي" بعلّاته من ازدواجيّة معايير وصمته أمام إجرام اسرائيل، تبقى القاعدة ثابتة: من يريد البقاء يعمل كدولة داخل النّظام، لا كتنظيم يعيش على هامشه. حتّى أن الثورة الإسلامية في إيران ذاتها، تجسّدت في دولة: تُفاوض، تعقد الصفقات، وتحسب الكلفة. وسلوكها سلوك دولة: نفوذ، تحالفات، وإدارة مصالح. بهذا المعنى، ما حصل مؤخّراً في طهران من تأجيل تطبيق قانون "الحجاب والعفّة"، إنّما هو رسالة مزدوجة للداخل والخارج على حدّ سواء: دولة قادرة على التكيّف.
بين الولاية والدولة
وفي سياق الحديث عن إيران، رفض السيّد محمّد حسين فضل الله ولاية الفقيه العامّة، معتبراً أنها نتجت في إيران عن عقد دستوري وقبول شعبي. أمّا عندنا فالعقد مختلف، والقبول غير قائم، والخصوصية هي سمة لبنان.
السؤال المباشر اليوم، هل ما زال حزب الله يعتبر نفسه جندياً فيها، أو حصل تحوّل؟ تكمن أهميّة الجواب في معرفة ما هي أولويات الحزب: الولاية أم الدّولة؟ إذا كانت الولاية، فإن أفقكم سيبقى مسدوداً وستبقون في عتمة الأنفاق. وإذا كان الدولة، ستكون إمكاناتكم عظيمة.
يقول السيّد فضل الله إنّنا "أمّة تعبد الأصنام. ونصنع في كلّ مرحلة صنماً هنا وصنماً هناك، نتعبّد له بطريقة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية". فالتحوّل المطلوب هنا منكم شيخ نعيم، هو كسر صنميّة المقاومة، الّتي كانت شريكاً أساسياً في انزلاق البلد إلى المنحدر الّذي وصل إليه. كانت شريكاً وراعياً للفساد. شكّلت طرفاً أساسياً في النظام اللبناني القائم ليس على المحاصصة فقط، بل على انقسام المجتمع وتزكية الفرز الطائفي. أوليست المقاومة مقدّسة ومنزّهة ومتعالية؟
لم يكن تحريم السيّد محمد حسين فضل الله ضرب الرؤوس بآلات حادّة أثناء عاشوراء تفصيلاً فقهياً، بل كان دعوة للخروج الواعي من ثقافة المظلومية والحداد والثأر، إلى ثقافة الكرامة الإنسانية والتوقّف عن تحويل الأذى إلى هويّة. الأمر الذي كان له أثر عميق في مقاربة مفهوم النصر.
في مفهوم المواطنة
بالمقابل، تتقن إسرائيل سرديّة الاضطهاد وتستخدمها غطاءً لوحشيّتها. ونحن في لبنان ننتهج الأسلوب ذاته، حيث يُطلب من الشيعة الشعور بالتطويق، ومن السنّة بالخسارة، ومن المسيحيين بالخوف على الهويّة. كلّ ذلك في سبيل وحشية تمارس ضدّ مفهوم المواطنة اوّلاً، وبناء الدولة ثانياً.
خلال العقدين الأخيرين، انتهج حزب الله استراتيجية خطابية قائمة على رفع وتيرة خطابه بوجه إسرائيل، مستنداً -عن معرفة أو جهل- إلى قوّته العسكرية وترسانته الصاروخية وخططه لاحتلال أجزاء من إسرائيل. كانت ناجحة عندما كانت المواجهة مع إسرائيل باردة، أمّا اليوم وقد تحوّلت الى مواجهة ساخنة، فإن هذه الاستراتيجية تزيد من كلفة الفاتورة التي يدفعها اللبنانيون من جرّاء الاعتداءات الإسرائيلية. فيما أنتم عاجزون عن إطلاق رصاصة باتجاه إسرائيل. أمّا داخلياً، ففعاليّتها "ممتازة"، الانقسام والانعزال والكراهية إلى تصاعد.
ما قصّتكم يا شيخ نعيم؟ تتراجعون أمام إسرائيل، وتعلنون هذا التراجع صراحة، أمّا في الدّاخل فما زلتم متمسّكين بالخطاب العالي والنّبرة الواثقة والملاحم الآتية!
تروي الأسطورة اليونانية أنّ أنتايوس كان عملاقاً يستمدّ قوّته من تماسه مع الأرض مباشرة، ولم يتمكّن هرقل من هزيمته إلّا عندما رفعه عن الأرض، ما حرمه من قوّته وقاده إلى الهزيمة والموت.
المطلوب اليوم هو التمتّع "بشهامة مقاوماتية" تُعيدكم للتماس مع الأرض. والمعادلة بسيطة هنا: أثر استراتيجيّتكم يُقاس بالكلفة على العدو، وبسلام الناس؛ الواضح اليوم أنّ المؤشّرات لصالح العدو على حساب الناس، كلّ الناس.
تحوّل نحو الداخل
نعود يا شيخ نعيم إلى التحوّل، هو أمر لا بدّ منه، لكن فعاليّته مرتبطة بالتوقيت. عندما اعترف جورج حاوي بأن اليسار لم يقرأ تبدّل الموازين بعد توقيع اتفاقيات "كامب دايفد"، كان متأخّراً. التبدّلات اليوم أعمق وأفصح، وإذا لم تُقرأ الإشارة في وقتها، ستقرؤها الوقائع عنكم.
نحن أمام مأزق، التعاطي مع إسرائيل مأزق بحدّ ذاته، علماً أنها ليست بحاجة لذرائع من أجل تبرير اعتداءاتها وفرض هيمنتها، ومهما فعلنا فلن نخرج مرتاحين من هذا المأزق.
لكن هناك شقّاً آخر لكلّ ما يحصل، وهو الداخل اللبناني. فإذا كنا غير قادرين على هزيمة إسرائيل، علينا أن نكون أقلّه قادرين على ترميم وضعنا الداخلي المأساوي. مسؤوليتكم يا شيخ نعيم اليوم، هي المبادرة الى إجراء تحوّل في وجهتكم والالتفاف إلى الداخل اللبناني، مسؤوليتكم هي في السعي لتوحيد جبهة الداخل والتصدّي للكراهية التي تنخر بمجتمعنا، وتبقينا مجتمعات متناحرة لم ترقَ يوماً لمستوى مصلحة وطنيّة وخير عام لكلّ الناس.
ولّى "زمن الانتصارات" (وكان قصيراً)، ونعيش اليوم زمن الاختصارات: فلنختصر من خطاباتنا وشعاراتنا. القائد هو من يعيش مسؤولية القيادة تجاه الناس وأولادها وأمانها. وللإنصاف، أنا من القائلين إن حزب الله ليس المسؤول الوحيد عن انهيار البلد وفساده واغتيالاته. لكن موقعكم اليوم، والقرارات الّتي تتفرّدون فيها، تضعكم في صدارة المساءلة وفي تحمّل المسؤولية.
فإذا كان "الوعد الصادق" عنوان حرب 2006، فيجب أن يكون عنوان المرحلة اليوم: "التحوّل المسؤول"؛ تحوّل في الأساليب والوسائل والوجهة، يقيس النجاح بالكلفة على العدوّ وبسلام الناس. تحوّل في مفهوم الإنسان: من وقود إلى غاية.
المواطن شهيد نكد
