بدا النواب في الجلسة النيابية كأنهم في يوم دراسي بارد في مدرسة بلا جرس، حيث لا صوت يعلن بداية الحصة ولا نهايتها. توافد النواب تباعًا، متأخرين كالعادة، يسيرون بخطى متثاقلة في أروقة مجلس النواب، كأنهم يعرفون مسبقًا أن الجلسة لن تلتئم، وأنه لا قرار سيولد. دخل بعضهم القاعة ثم خرجوا في غضون دقائق، لكأن الجميع كان ينتظر «كلمة السرّ» التي ستحدد موقفهم من الحضور أو عدمه.
الأحاديث الجانبية طغت على كل شيء: نكات، همسات، عتابات عابرة، وضحكات قصيرة تشبه ضحكات موظفين في نهار طويل بلا عمل. الأيدي تُصافح بخمول، والعدسات تتنقّل على وجوهٍ متعبة تعرف اللعبة جيدًا.
مشهدية مجلس النواب كانت مكتظّة بالرسائل والإيحاءات، والكباش السياسي في ذروته. كانت لغة العيون تقول أكثر مما تفصح عنه التصريحات، وكل حركة محسوبة ومقصودة. لم تكن الجلسة مجرّد جلسة تشريعية مؤجَّلة، بل مسرحًا مكشوفًا تتقاطع فيه الرسائل وتُختبر فيه موازين القوى.
معركة بري
النصاب لم يكتمل، رغم محاولات جرت لتأمينه، إلا أنها لم تؤتِ أكلها. مصادر مقرّبة من رئيس مجلس النواب نبيه بري صرّحت لـ"المدن" بأنّه "ترك العملية الديمقراطية تأخذ مجراها، ولم يضغط لتأمين النصاب".
بهذا المعنى، يبدو عدم الضغط قرار استراتيجيً. بري يحرص على تحميل الآخرين مسؤولية تعطيل إعادة الإعمار، والحفاظ على القانون الانتخابي بصيغته الحالية، مع ترك مساحة لإمكانية إيجاد تسوية أو مخرج يتعلق بالانتخابات المقبلة. بمعنى آخر، هذه الاستراتيجية تمنحه التحكم باللعبة السياسية، بحيث يبقى هو صاحب المبادرة، ويحدد من يتحمّل تبعات تعطيل الجلسة ومن يشارك في إعادة ترتيب المشهد النيابي.
في عمق الصورة، فإن ما حدث في مجلس النواب يوضّح أن البلاد تتجه نحو اشتباك سياسي داخلي، ليس بعيداً عن الضغط الدولي المباشر الذي يمارس على لبنان، حيث أن الضغوط الخارجية تحاول حكماً إدخال ملف الانتخابات النيابية ضمن سياق التأثير. الجلسة لم تكن مجرّد اجتماع تشريعي، بل امتداد لمعركة أوسع، حيث البلاد منقسمة عموديًا، والانقسام يرتدي وجهًا انتخابيًا واضحًا. المعارضة، من "القوات" إلى "الكتائب" وبعض التغييريين، أعلنت صراحة أنها تريد "كسر نبيه بري". النائب فراس حمدان قال لـ"المدن": "نحن أمام معركة سياسية مع رئيس المجلس الذي يمارس أقصى درجات الكيدية من خلال حرمان أكثر من ثلث اللبنانيين الذين تهجّروا من لبنان".
أما النائب قبلان قبلان، فقد أضاف تحذيرًا من الغضب الشعبي، قائلاً: "إحذروا غضب الناس الذين يقتلون كل يوم"، وهو مؤشر واضح على أن اتهامات الثنائي لخصومه بأنهم يسعون لدفع البلد نحو الصدام ليست مبالغة، بل تعكس واقعًا سياسيًا متوترًا يتصاعد مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي.
لعبة 250 مليون دولار
الواضح أن الانتخابات لن تحصل إلا إذا أتيح للمغتربين فرصة التصويت في لبنان، وهي نقطة أساسية في الحسابات الانتخابية الحالية. لكن كيفية التعامل مع هذا الملف لا تزال قيد البحث، وهذا ما يتوضح من مواقف النواب وخصوصًا الثنائي الشيعي، الذي يوزّع أوراقه بحذر ويترقب كل خطوة للخصوم.
في المقابل، يحوّل نبيه بري الانقسام السياسي إلى قوة استراتيجية بامتياز. عبر التعطيل، يستطيع أن يتهم خصومه بتعطيل إقرار قرض الـ250 مليون دولار المخصّص لإعمار الجنوب، فيصبح الغياب عن الجلسة وفق خطابه، خيانة للناس. هذا التعطيل يُعتبر عمليًا تعطيل مصالح المواطنين في الجنوب والبقاع وقضاء بعبدا، أي المسّ المباشر بحياتهم اليومية وبما تبقّى من بنى تحتية بعد الحرب.
المعركة محتدمة على جبهتين: المالية والقانونية. بري يريد الإبقاء على القانون الانتخابي كما هو، فيما المعارضة تسعى لتعديله، لا سيما في ما يتعلق بتصويت المغتربين. وهكذا، يصبح التعطيل سلاحًا مزدوجًا: وسيلة ضغط سياسية ووسيلة لتثبيت القانون القائم. هنا تنتصر استراتيجية بري، لأنه يملك مفاتيح المجلس كاملة، الدعوة إلى الجلسات، وضع جدول الأعمال، وضبط إيقاع النقاش كما يشاء، بما يسمح له التحكم باللعبة السياسية من دون أن يتحمّل وحده تبعات التعطيل.
هذا التعطيل نفسه سيُستخدم قريبًا كشعار انتخابي لـ"الثنائي": المرشّحون الذين يخوضون لوائح ضدّه، من كل الطوائف، سيدفعون ثمن المقاطعة في صناديق الاقتراع. أما البند المالي، والبالغ 250 مليون دولار، فقد تحوّل إلى شعار انتخابي مبكر: من عطّل الجلسة عطّل الإعمار، ومن غاب عن التصويت غاب عن الناس. كل حركة، كل غياب، وكل كلمة تُقال في المجلس تُترجم إلى مشهد انتخابي حيّ، وكأن كل شيء في لبنان أصبح جزءًا من المسرحية قبل أن تبدأ الانتخابات، حيث تتشابك السياسة بالقانون والمال والشعب في حلبة واحدة من الحسابات والرموز الانتخابية.
المعادلة المقبلة
المعادلة المقبلة أكثر تعقيدًا. فالمجلس أمام استحقاقي الموازنة والإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي. إن واصلت المعارضة المقاطعة، ستتحمّل مسؤولية تعطيل المؤسسات. وإن عادت إلى القاعة، فستجد نفسها أسيرة جدول أعمال لا يتضمّن ما تطالب به. بين الشدّ والابتزاز، تظل اللعبة السياسية مفتوحة على كل الاحتمالات، في بلدٍ اعتاد أن يعلّق دستوره عند باب البرلمان، كلّما دقّ جرس الانتخابات.
توزّعت المواقف على طريقتها اللبنانية المألوفة، بين تهدئة وتحذير واستعداد للمعركة المقبلة. النائب قاسم هاشم صرّح لـ"المدن" مستغرباً من رفض بعض الأطراف للقانون قائلاً: "الكل كان متوافقًا على هذا القانون منذ عام 2017، فلماذا الرفض اليوم؟".
في المقابل، حاول النائب هادي أبو الحسن أن يخفف من حدة التوتر، معيدًا المسألة إلى سياق العمل المؤسساتي: "ننتظر جلسة الغد، وسنبني على الشيء مقتضاه، لكننا متمسكون بموقفنا دون تعطيل الجلسات التشريعية". تصريح يشي برغبة في الحفاظ على الخطاب العقلاني أمام الرأي العام، وفي الوقت نفسه يؤكّد على تمسّك المعارضة بمواقفها، من دون الدخول في مواجهة مباشرة مع رئيس المجلس.
أما سيزار أبي خليل، فوقف موقف المراقب السياسي المحايد تقريبًا: "كل نائب حرّ في حضور الجلسة أو مقاطعتها، لكن الواضح أن هناك محاولة لتصعيد المشكل من أجل الوصول إلى تسوية لاحقة". هنا تكمن القراءة بين السطور: المشهد ليس مجرد خلاف قانوني أو مالي، بل محاولة محسوبة لاختبار موازين القوى، وتهيئة أرضية لتفاهمات مستقبلية.
ركان ناصر الدين أضاف بعدًا آخر، مركزًا على البعد الشعبي والحقوقي: "نحن حريصون على أن كل لبناني يأخذ حقوقه، وكل مرشح فرصه متوازنة، اليوم سنكون مستمعين، وإن شاء الله خير".
أما بولا يعقوبيان، فقد أتت تصريحاتها حادة ومباشرة: "هذه أم المعارك، أريد أن تدرك المعارضة أنه يجب أن ننسق بشكل أكبر، كل وسائل الضغط يجب أن تمارس".
المواقف التي تبدو ظاهريًا "رسمية" تحمل دلالات أعمق. هناك من يسعى إلى تثبيت القانون القائم، وهناك من يراهن على الضغط الجماعي والتنسيق بين الأطراف المعارضة لتغيير المعادلة الانتخابية. كل نائب أو تصريح يُقرأ أيضًا كرسالة سياسية، كل كلمة أو موقف يرسل إشارات إلى الرأي العام، إلى الخصوم، وربما إلى الوسط الدولي الذي يراقب ما يحدث عن كثب. الجلسة، حتى في غياب النصاب، كشفت عن خريطة النفوذ، والصراع على السلطة، وحسابات ما قبل الانتخابات، بطريقة تعكس عمق الانقسامات اللبنانية وتشابك السياسة مع القانون والمصالح الانتخابية.
الجلسة التي لم تُعقد كانت دلالاتها أكثر مما لو أنها انعقدت. رئيس مجلس يتمسّك بمفاتيح اللعبة، معارضة تلوّح بالمقاطعة كأداة ضغط، وبلدٌ يراوح بين نصاب مفقود واستحقاق انتخابي وشيك. مشهدٌ سياسي مألوف، لكنه هذه المرة أكثر فجاجة: الجميع يعرف اللعبة، والجميع يشارك فيها، فيما الجلسة الغائبة كانت الحاضر الأوضح في يومٍ لبنانيّ آخر من العبث والانتظار.
