في مقالٍ مطوّلٍ نشرته مجلّة فورين بوليسي، وضع الكاتبُ والمحلّل الأميركيّ من أصلٍ إيرانيّ كريم سَجّادبور قراءتَه لما أسماه "خريفَ الآيات"، معتبرًا أنّ إيرانَ تدخل أخطرَ لحظةٍ في تاريخها منذ الثورة الإسلاميّة عام 1979. واليوم، بعد أكثر من ستٍّ وأربعين سنةً على قيام "الجمهوريّة الإسلاميّة"، تبدو البلادُ وكأنّها تقترب من نهايةِ مرحلةٍ وبدايةٍ أخرى.
الشيخوخةُ التي أصابت النظام، والارتباكُ الذي يطبع مؤسّساته، وتراجعُ حضورِه الإقليميّ بعد سلسلةِ الهزّات من غزّة إلى بيروت ودمشق، كلّها تجعل السؤالَ المطروح اليوم: ما الذي يتبقّى من الثورة التي سعت لتصدريها إيران؟ وما شكلُ النظام الذي سيأتي بعد المرشد الأعلى السيّد علي خامنئي أو بعد حكم الوليّ الفقيه؟
شيخوخة النظام ومأزق الخلافة
يتقدّمُ المرشدُ الأعلى في السنّ، فيما تسعى دوائرُ الحكم لاستشراف وراثته من خلال مراجعاتٍ داخليةٍ لأداء كلٍّ منها ومعرفةِ الاتجاهات التي يجب سلوكها.
تشير الدراساتُ الصادرة عن مؤسّساتٍ بحثيّةٍ غربيّة، مثل Clingendael وNew Lines Institute، إلى أنّ النظام الإيرانيّ يعيشُ مرحلةَ نفاد الطريق، إذ تآكلت قدرتُه على توظيف الأيديولوجيا في الداخل والخارج، بينما يُمسكُ الحرسُ الثوريّ بالمفاصل السياسيّة والاقتصاديّة للدولة، ما يُنذر بتحوّل الجمهوريّة الإسلاميّة إلى دولةٍ أمنيّةٍ قوميّة.
أمّا القراءةُ الإيرانيّة الداخليّة، كما تعكسها دراساتٌ صادرةٌ عن جامعات طهران وشهيد بهشتي، فترى المشهدَ من زاويةٍ مختلفة: فالنظامُ، برغم تراجعه الإقليميّ، لا يزال متماسكًا في مؤسّساته، ويعتبر أنّ "الشرعيّة الاقتصاديّة" هي التحدّي الأوّل اليوم لا الأيديولوجيّة. فالأولوية في طهران، كما تشير أبحاث Iranian Strategic Studies Center، هي منعُ الانهيار الداخليّ قبل أيّ مغامرةٍ خارجيّة.
ومع أنّ أصواتَ الاعتراض تتزايد في الداخل، إلا أنّها لم تبلغ بعد مستوى الثورة أو الانتفاضة، لأنّ المجتمع الإيرانيّ ما زال منقسمًا بين جيلٍ مُرهَقٍ يريد حياةً عادية، وجيلٍ آخر يخشى الفوضى ويرى في الدولة، رغم علّاتها، صمّامَ الأمان.
من العقيدة إلى الأمن
إيرانُ ما بعد خامنئي مرشَّحةٌ لتبدّلٍ في شكل السلطة لا في جوهرها. فمع انحسار النفوذِ الأيديولوجيّ، تتقدّمُ المؤسّسةُ الأمنيّة لتملأ الفراغ. ومن المرجَّح أن ينتقلَ مركزُ القرار من سلطةِ العقيدة إلى سلطةِ الأمن والبيروقراطيّة، كما حصل في مراحلَ سابقةٍ من عمر الثورات في العالمين العربيّ والإسلاميّ، حيث تحوّلت الكياناتُ الثوريّة إلى أجهزةٍ تحرسُ نفسها بدل أن تُجدّدَ المجتمع وتحتمي به.
ولمّا كان الملفّ النوويّ عنوانًا قوميًّا لإيران منذ العهد البهلويّ، تخشى القيادةُ الحاليّة أن يؤدّي أيُّ تنازلٍ في هذا الملفّ إلى سلسلةِ مطالبَ غربيّةٍ إضافيّةٍ قد تُفضي في النهاية إلى سقوط النظام نفسه. لذلك تعتمدُ طهرانُ إستراتيجيّةَ "التشدّد الوقائيّ" أي الامتناع عن تقديم تنازلاتٍ كبرى، والتوجّه شرقًا نحو موسكو وبكين، مع إعادةِ تأهيل قدراتها الدفاعيّة تحسّبًا لأيّ مواجهةٍ محتملة.
وفي هذا السياق، تُعيد القيادةُ الإيرانيّة تعريفَ أولويّاتها عبر ما يُسمّى في الدوائر الأكاديميّة "الانكماش الاستراتيجيّ"، أي تركيزُ الجهد على الداخل بعد انحسار هامش المبادرة الخارجيّة. فالمسألة لم تعد تصدير الثورة، بل صيانة النظام.
وقد أعادَ خامنئي في خطابه الأخير الاعتدادَ بالذات بعد الحرب، مؤكّدًا أنّ "إسرائيل لم تكن تتوقّع أن تُصاب أعماقُ مواقعها الحسّاسة وتتحوّل إلى رماد". وفي المقابل، وجّهت واشنطن رسائلَ جديدةً إلى طهران تدعو إلى مفاوضاتٍ تشملُ ثلاثة ملفاتٍ في آنٍ واحد: النوويّ، الصاروخيّ، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وهو ما رفضته إيرانُ معتبرةً أنّه "إملاءاتٌ مغلَّفةٌ بلغة الدبلوماسية".
انكفاءٌ إقليميٌّ غير مسبوق
بعد سنواتٍ من التمدّد عبر "محور المقاومة"، تجدُ إيرانُ نفسها اليوم أمام تراجعٍ إقليميٍّ حادّ. فقد أطاح "طوفان الأقصى" بمعادلةِ الردع التي قامت عليها عقيدةُ الدفاع المتقدّم، وأخرجَ "حماس" من الخدمة موقّتًا، فيما سقطَ نظامُ بشّار الأسد، صلة الوصل بين أطراف المحور، واغتيلَ السيّد حسن نصرالله ومعظمُ قيادة حزب الله في الضربات الإسرائيليّة المتلاحقة.
وتوالت تلك الضربات ليس لأهدافٍ عسكريّةٍ فحسب، بل لمنعِ عودةِ الجنوبيّين إلى قراهم وعرقلةِ إعادة الإعمار، وصولًا إلى تأليب البيئة الشيعيّة على الحزب.
أما في إيران نفسها، فقد كان لانكشاف الداخل أمام شبكاتِ تجسّسٍ وتنفيذ عمليات أمنيّةٍ نوعيّةٍ، وضربِ المنشآت النوويّة واغتيالِ قياداتِ الصفّ الأوّل، أثرٌ كبيرٌ في إعادةِ رسمِ دور النظام. فطهران لم تعد تواجه أعداءها بالواسطة، بل تتعرّضُ لضرباتٍ مباشرةٍ وتعيشُ عزلةً غير مسبوقة.
النظامُ الذي كان يتعاملُ مع أزمات الإقليم كفاعلٍ رئيسٍ فيها، باتَ اليومَ مضطرًّا إلى احتوائها في الداخل، فيما تبتعدُ العواصمُ العربيّة والإسلاميّة عنه واحدةً تلو الأخرى، وتنصرفُ موسكو وبكين إلى أولويّاتهما البعيدة. مشروعُ قاسم سليماني لبناء محور المقاومة من بغداد إلى صنعاء ودمشق وبيروت وغزّة، الذي ترنّح ساعة اغتياله، سقط بالكامل بعد اغتيال السيّد حسن نصرالله وسقوط النظام في سوريا.
وفي المقابل، ترى بعضُ المراكز الإيرانيّة مثل Iran Future Studies Network أنّ هذه العزلة قد تكون "استراحةً اضطراريّةً" تعيدُ لإيران طاقتها التفاوضيّة، إذ تسعى طهران إلى تحويل خسائر الإقليم إلى مكاسب داخليّة عبر التنمية الذاتيّة والاندماج في الأسواق الآسيويّة.
من الشرعيّة الثوريّة إلى الشرعيّة المعيشيّة
ورغم هذا الانكفاء، لا يزال المجتمعُ الإيرانيّ ينبضُ بمزيجٍ من الاحتجاجِ والحنين. فبعد أكثر من أربعة عقودٍ من حكم الأيديولوجيا، لم يعد الإيرانيّون يبحثون عن "قائدٍ ملهَم" ولا عن "مذهبٍ مخلِّص"، بل عن ما يسمّونه زندگيِ نورمال: حياةٍ طبيعيّةٍ بلا قمعٍ ولا رقابةٍ مشدَّدة.
لقد كرّس النظامُ نصفَ قرنٍ في معاركِه القوميّة والأيديولوجيّة تحت عنوانَين: "النوويّ الإيرانيّ" و"القدس"، فيما أُنهِكت الدولةُ وشعبُها معًا. لم يعد السؤالُ اليوم: هل ستتغيّر إيران؟ بل كيف ومتى وعلى يد مَن؟ هل يُحافِظ النظامُ على طابعِه الدينيّ؟ أم تنقلبُ المعادلةُ نحوَ نظامٍ قوميٍّ عسكريٍّ يقوده الحرسُ الثوريّ؟ أم تنكفئ إيرانُ على نفسها في عزلةٍ خانقةٍ تُشبه كوريا الشماليّة؟
وإذ يبتعدُ الحلمُ الثوريّ عن واقعه الأوّل، تبدو "الجمهوريّة الإسلاميّة" أمام لحظةِ كشفٍ تاريخيّة: إمّا أن تتحوّل إلى دولةٍ طبيعيّةٍ قادرةٍ على الانفتاح على محيطها الإقليميّ -ولا سيّما على الخليج والسعوديّة وتركيا ومصر وباكستان- أو أن تغرقَ في عزلةٍ طويلةٍ تُشبه شتاءً لا ينتهي.
فالخريفُ بدأ فعلاً، أمّا الربيعُ فمؤجَّلٌ إلى إشعارٍ آخر.
تصفُ بعضُ الدراسات الإيرانيّة هذا التحوّل بأنّه انتقالٌ من "الشرعيّة الثوريّة" إلى "الشرعيّة المعيشيّة"، أي شرعيّة الدولة التي تَخدم وتُوفّر، لا التي تُعبّئ وتُؤدلِج. ويعبّر هذا المزاج الجديد عن جيلٍ يريد العودة إلى العالم لا الصدام معه، وعن قوميّةٍ فارسيّةٍ جديدةٍ أكثرَ اعتدالًا ترى في إيران أمّةً حضاريّةً قبل أن تكون ثورةً دائمة.
لكنّ الطريقَ إلى هذه الحياة لا يزال غامضًا. فكما فاجأت ثورةُ 1979 العالمَ بانفجارها غير المتوقّع، قد يأتي التحوّلُ المقبلُ من زاويةٍ لا تُرى الآن. وبين الانفتاحِ على الطريقة الصينيّة والانغلاقِ على الطريقة الكوريّة، تسيرُ إيران بخطًى حذرةٍ نحو مصيرٍ لم يُرسَم بعد: بين ربيعٍ مرتجى وخريفٍ لا يريد أن ينتهي.
