يبدو أنّ لبنان، وللمرّة الأولى منذ عقود، يعيش مومنتومًا سياديًّا وإصلاحيًّا نادرًا، تتقاطع فيه إرادة الدّولة مع ضغط المجتمع، ومع اهتمامٍ عربيّ - دوليٍّ متجدّد بضرورة إنقاذه من التّفكّك. لكنّ هذا المومنتوم، الذي قد يشكّل الفرصة التّاريخيّة الأخيرة أمام انتصار تاريخي للقضيّة اللّبنانيّة، يواجه في المقابل رهاناتٍ خطيرة للالتفاف عليه من قِبَل المنظومة السّياسيّة، التي خبرت عبر التّاريخ كيف تُجهض كلّ لحظة وطنيّة واعدة، إمّا بالتحايل، أو بالتّذاكي، أو بالتّعطيل الممنهج، خلوصاً إلى تبادل الأدوار، ظنّاً بامكانيّة نجاح سياسة احتواء العقبات، التي فرضتها حقيقة الّلادولة على مدى أكثر من خمسين عاماً.
لطالما اشتهرت المنظومة السّياسيّة في لبنان بإضاعة الفرص التّاريخيّة، من الاستقلال الأوّل عام 1943 مرورًا باتّفاق الطّائف عام 1989، فانتفاضة الاستقلال الثاني 2005 وصولًا إلى حراك 17 تشرين الأول 2019. كانت هذه الأخيرة تسعى دوماً إلى إعادة إنتاج نفسها عبر صفقاتٍ ظرفيّة ومقايضاتٍ مصلحيّة، تُبقيها ممسكة بمفاصل الدّولة، وتُفرغ كلّ مسارٍ سيادي ّوإصلاحيّ من مضمونه. اليوم، إذ يجد لبنان نفسه أمام فرصةٍ جديدة قد تكون الأخيرة لاستعادة السّيادة وتنفيذ الإصلاح، تعود الأساليب ذاتها لتطلّ برأسها، تحت عناوين "التّفاهم" و"الشّراكة" و"الواقعيّة السّياسيّة"، في حين أنّ الهدف الحقيقيّ هو حماية مصالح طبقةٍ حاكمةٍ باتت تتقن لعبة تفريغ الدّستور، والانقلاب على قرارات مجلس الأمن الدّولي 1559 و1680 و1701، التي تمثّل المرجعيّة القانونيّة لإعادة بناء دولة المواطنة السّيّدة الحرّة العادلة المستقلّة.
على الضّفّة الأخرى، يُسجَّل في هذه المرحلة تقاطعٌ لافتٌ بين رئيس الجمهوريّة العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة القاضي الدّكتور نواف سلام. فالأوّل يعبّر في خطابه وممارساته عن محاولة إعادة تعريف دور الرّئاسة في سياق وطنيّ جامع، يضع السيادة الناجزة في قلب مشروع الدّولة، بعيدًا من التّبعيّات الطّائفيّة والمناطقيّة. أمّا الثّاني، فيحمل مشروعًا إصلاحيًّا جادًّا في مقاربة الحوكمة والإدارة العامّة، مستندًا إلى رؤيةٍ قانونيّة وأخلاقيّة للدّولة كمفهومٍ للمواطنة والمساءلة. إنّ تكامل هاتين المقاربتين لا يعني تماهياً كاملاً، بل يعبّر عن وعيٍ عميقٍ بأنّ بناء الدّولة لا يمكن أن يتمّ إلّا من خلال تعاون المؤسّسات الدّستوريّة تحت سقفٍ واحد وهو سيادة الدستور القانون، مع احترام مبدأ فصل السّلطات.
يواجه هذا التّكامل في المقابل تعنّتًا واضحًا من قِبَل المحور الإيرانيّ، الذي يجد في أيّ محاولة لبنانيّة لاستعادة القرار الوطنيّ خطرًا مباشرًا على مشروعه الإقليميّ المتهاوي. يمثّل "حزب الله" الذّراع الأبرز لهذا المحور داخل لبنان، وقد أثبت عبر السّنوات أنّه يتعامل مع الدّولة بوصفها مجرّد غطاءٍ سياسيّ لشرعيّة سلاحه، لا ككيانٍ جامعٍ للّبنانيّين. وهو اليوم، أمام التّحوّل الجوهريّ في المزاجين الدّاخليّ والدّوليّ، يسعى إلى تعطيل أيّ مسارٍ سياديّ إصلاحيّ جدّيّ، سواء عبر افتعال الأزمات الأمنيّة، أو من خلال فرض معادلاتٍ سياسيّة تجهض أيّ محاولةٍ لاستعادة سيادة الدّولة على قرارها وسلاحها وحدودها. من الواضح أيضاً أنّ إسرائيل مصمّمة على عدم السماح للدولة اللبنانيّة بالافادة من المومنتوم السيادي والإصلاحي القائم ربطاً بأجندتها الخطيرة.
رغم هذه التّحدّيات، فإنّ ما يميّز المومنتوم الحاليّ هو أنّه ليس نتاج توازناتٍ سياسيّة آنية فحسب، بل ثمرة تراكمٍ وطنيّ وشعبيّ امتدّ على مدى سنوات. المجتمع اللّبنانيّ، بتعبيراته المدنيّة والأكاديميّة والاغترابيّة، بات أكثر وعيًا بأنّ لا إصلاح من دون سيادة، ولا سيادة من دون إصلاح. هذا التّلازم البنيويّ بين المفهومين هو جوهر القضيّة اللّبنانيّة اليوم: دولةٌ تحكم بالدّستور، لا بثنائيّاتٍ أو ترويكا أو محاصصة. من هنا، تتبدّى أهمّيّة تبنّي سياسة الأمن القوميّ المرتكزة على الحياد الإيجابيّ، بما يضمن حماية لبنان من محاور الصّراع الإقليميّ، ويعيده إلى دوره الحضاريّ في العالم العربيّ والمجتمع الدّوليّ، موئلًا للحريّة، والتّعدّديّة، والدّيموقراطيّة، وحقوق الإنسان، والسّلام.
هذا المومنتوم يظلّ هشًّا، ما لم يُترجم إلى خطواتٍ ملموسة. الإصلاح السّياسيّ يبدأ من تطبيق الدّستور نصًّا وروحًا، ومن تحرير القضاء من الضّغوط السّياسيّة، وإعادة الاعتبار للمؤسّسات الرّقابيّة، وتحديث الإدارة العامّة. وفي الوقت نفسه، لا بدّ من معالجة الاختلالات الاقتصاديّة عبر خطّةٍ واضحةٍ للإنقاذ الماليّ، تُعيد الثّقة بالنّظام المصرفيّ وتُفعّل التواصل البنّاء بين الإنتاج والرّيع. إنّ هذه الإصلاحات لا يمكن أن تنجح إلّا في ظلّ سيادةٍ كاملةٍ للدّولة على أراضيها وحدودها ومرافئها، وإلّا فإنّ كلّ إصلاحٍ يبقى شكلانيًّا.
إنّ رهانات الالتفاف على هذا المومنتوم تتكشّف في أكثر من اتجاه محاولة إعادة إدارة الدولة على قاعدة المحاصصة القديمة، وإحياء الاصطفافات الطّائفيّة، وتغذية الشّارع بخطابات الخوف المتبادل. لكنّ اللّبنانيّين باتوا يدركون أنّ هذه الأدوات فقدت فعاليتها، وأنّ الحفاظ على ما تبقّى من الكيان يتطلّب مواجهة شجاعة مع منطق الّلادولة، وقطع الطّريق على كلّ محاولة لتدوير الأزمة داخل حلقةٍ مفرغةٍ جديدة.
إنّ المومنتوم السّياديّ الإصلاحيّ ليس مجرّد ظرفٍ سياسيّ، بل هو لحظة وعيٍ وطنيّ تتجاوز الاصطفافات. المطلوب اليوم أن يتحوّل هذا الوعي إلى مسارٍ دائم، عبر تحالفٍ وطنيّ واسعٍ من القوى المدنيّة والجامعيّة والاغترابيّة والمؤسّسات الدّستوريّة، يؤسّس لمرحلةٍ جديدةٍ في تاريخ لبنان. إنّها فرصة أخيرة لإنقاذ الدّولة من براثن التّفكّك، وإعادة الاعتبار للقضيّة اللّبنانيّة كقضيّة وجودٍ وسيادةٍ وإصلاحٍ في آنٍ واحد. فإمّا أن يُكتب للبنان أن ينهض دولة مواطنة حرّة سيّدةً عادلةً مستقلّة، وإمّا أن يُطوى من جديد في سجلّ الأمم التي أضاعت فرصها الأخيرة.
