الأنفاق لا تستعيد السماء

مروان حربالاثنين 2025/10/27
نفق حزب الله (Getty)
صار لبنان مختبراً للعبث (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

لم تعد المسيّرات الإسرائيلية التي تحوم فوق بيروت مجرّد أدواتٍ عسكرية للمراقبة. إنها رمزٌ لواقعٍ سياسيٍّ مرير: لبنان فقد سماءه. سماءٌ لم تعد شمساً ولا قمراً، بل سقف ملبد وغريب يحوم فوق بلدٍ يتحرّك سكانه فوق سطحٍ هشّ، كأنهم يعيشون على حافة الوجود. 

 

لكن المأساة لا تكتمل في السماء وحدها. فالأرض أيضًا فقدت معناها. لم تعد مساحة تجذّر وانتماء، بل ساحة شكّ وتهديد. الأرض التي وُجدت لتحتضن، صارت وجهًا آخر للخطر. لم تعد تربةً تُنبت الحياة، بل جسدًا مفخخًا يختزن البرود في أعماقه. كأنها تشارك السماء في الحصار نفسه.

باسم "الحماية من السماء"، يواصل حزب الله تفخيخ الأرض، محوّلًا إياها إلى تهديدٍ آخر يتربّص باللبناني. ففي مقابل إسرائيل التي تراقب من الأعلى، يفرض الحزب على الناس واقعًا آخر في الأسفل -واقعًا يُدار بمنطقٍ تحت أرضي، حيث لا تُعاش الحياة في الضوء بل في الظلّ. يدفع الناس الى الهروب من السماء إلى الملاجئ- لا كمأوى مؤقت، بل كأسلوب حياة. إنها حياة الأنفاق: واقعٌ جديد تُعاد فيه صياغة الوجود نفسه. 

 

فالأنفاق، التي أُنشئت في الأصل للدفاع، تحوّلت إلى رمزٍ لفلسفةٍ كاملة للعيش، تُعرَّف فيها الحياة بقدرتها على الاختفاء، ويُقاس فيها الأمان بمدى القرب من العتمة. هكذا، يغدو البقاء فعلَ انسحاب، والنجاة فنًّا في التخفي. وبموجب هذه المعادلة، يتحوّل لبنان إلى نفقٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ كبير، تُخنق فيه الحياة اليومية. صار الضوء نفسه خطرًا، والسطح إغراءً بالموت. ومن أراد النجاة، عليه أن يهبط.. أن يعيش متواريًا عن الضوء، مراقبًا العالم من ثقوب الهواء. الأنفاق هنا لم تعد هندسةً عسكرية، بل هندسةً للخوف، نظامًا وجوديًا يعيد تشكيل علاقة الإنسان بوطنه، ويحوّل فكرة الأمان إلى تكيّفٍ دائم مع الرعب. 

 

هذه ليست مأساة أمنية فحسب، بل مأساة وجودية: أن يتحوّل المكان الذي يفترض أن يحميك إلى سببٍ دائمٍ لغيابك، أن تُجبر على العيش في وطنٍ لا تُؤتمن فيه الأرض، ولا تُرى فيه السماء. تلك هي الصيغة الجديدة للحياة في لبنان: أن تكون حيًا ما دمت غير مرئي. هكذا، يجد اللبناني نفسه كائنًا معلقًا بين موتين، مراقَب من فوق، ومحاصر من تحت.. فحين تُسلب من الإنسان سماؤه، يُنتزع منه الأفق؛ وحين تُدار أرضه بمنطق الخوف والتوجّس، تُقتلع جذوره. وعندها لا يبقى للإنسان سوى أن يعيش بيولوجيًا، لا وجوديًا، أن ينجو بجسده بعدما فقد معنى البقاء. هكذا صار لبنان مختبراً للعبث، حيث يُعاد تعريف الكرامة كترف، والحرية كخطر، والضوء كتهديدٍ يجب اتقاؤه. فحين يصبح الخوف نظامًا يومياً، والمأوى فلسفةً للبقاء، تتحوّل السياسة إلى مأساةٍ أخلاقية، والبلد إلى فخ معلّق بين المراقبة والاختناق.

وفي قلب هذا المأزق، لم يعد التفاوض مجرّد حمايةٍ للحدود، بل دفاعًا عن الحقّ في الظهور إلى الضوء. فالأنفاق لا تستعيد السماء، إنها تكرّس غيابها، استعادة السماء هي بالمصالحة مع الأرضبإعادة الوطن إلى معناه الأول، إلى كونه مكانًا للحياة لا ساحةً للحرب. من دون هذا التحوّل، سيظلّ لبنان بلداً يُراقَب من الأعلى ويُدفن من الأسفل، وسيظلّ السؤال: ليس من يملك السماء؟ بل هل يُسمح لنا أن نعيش تحتها؟

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث