سادت، ولفترة طويلة، مقولة إن العامل الداخلي هو الأساس في التغيير، وإن العامل الخارجي يقوم بدور مساعد، وفي حين يكون الداخل هو الحاسم، يكون الخارج هو المعين على تحقيق هذا الحسم.
عصفت التطورات العالمية بفلسفات ونظريات، وتكفّلت الحروب والمنازعات بدفع الأخلاقيات والمواثيق والمعاهدات والتفاهمات... إلى زوايا السياسة المظلمة. هو انقلاب شامل تراكمت عناصره بُعيد توقيت الحرب العالمية الثانية، في النصف الأول من القرن الماضي، ثم توالت انفجارات- "تراكمات" العناصر في أشكال من الحروب المتنقلة.
الوقوف على أبواب الانقلاب، أو العيش في ساحات عصفه، تقود "الذهن" إلى معاودة التفكّر في نتائج الانقلاب المرئية، في العالم البعيد، وفي الجوار القريب، وفي جنبات كل "دار" وطنية، ومعاودة التفكّر هذه، تمليها ضرورة تلمّس السياسات الواقعية، أو العملية، الواجبة، من أجل اختيار مسالك الانخراط والتكيف، أو من أجل حسن التدبير وحسن التأقلم.
نظرة سريعة إلى أحوال العالم الذي يطوّقنا بأحكامه اليوم، تتبيَّن المكانة التي تحتلها الولايات المتحدة الأميركية عالميّاً، وتلمس وطأة صراع سياساتها مع حلفائها ومع أندادها ومع "أضدادها"، مثلما تطّلع على صراع "أميركا" مع ذاتها، كنتيجة لاضطراب مكانتها الدولية، وملامسة زحزحتها عن كرسي "قيادة العالم" من قبل صينٍ صاعدة، أو روسيا طافرة، أو أوروبا موحّدة طامحة.
مركزية الدور الأميركي عالميّاً، تقرّب الباحث من مراجعة شروط هذه المركزية، وهذه الأخيرة تطرح السؤال حول حقيقة القيادة الأميركية للعالم، وحول امتلاك هذه القيادة بشروط وعناصر القيادة.
أقلام أميركية كتبت أن أميركا فقدت شروط القيادة العالمية، في مقدمة تلك الأقلام ما خطّه قلم مستشار الأمن القومي، زبغنيو بريجينسكي الذي رأى أن من شروط التمكين القيادي الأميركي، احتواء روسيا والصين، هذا لأن الخطر الأساسي، حسب المستشار، يأتي من جهة قيام تحالف بين هذين البلدين. إلى جانب هذا الاحتواء، عدّد بريجنسكي مهام لا بدّ منها، وهي: دعم الناتو وتوسيعه شرقاً، ومنع القوى المنافسة من السيطرة على "أوراسيا"، والاحتفاظ بالتفوق التكنولوجي والعسكري، وعقد التحالفات، والاعتماد على شبكات من الحلفاء التابعين، والحفاظ على الشرعية الدولية، وتوظيف قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان لتبرير التدخل في شؤون أكثر من دولة وأكثر من قارّة.
بمقاييس بريجنسكي، قصّر ثلاثة رؤساء أميركيين عن التقاط فرصة قيادة العالم، هؤلاء هم جورج بوش الأب، وجورج بوش الابن وكلينتون، واليوم، وفي ظل الترمبية "الحديثة" يتجدّد التقصير ويتفاقم مع الفوضى العالمية التي يقودها الرئيس الحالي دونالد ترامب.
أوروبا مجتمعة، ليست في حال أفضل، فهذه قاربت فقدان مكانتها العالمية الاستراتيجية، وارتضت ما يشبه الخضوع لشروط القيادة الأميركية الجديدة التي تهاجم بسلاح الضرائب الجمركية، كذلك انقادت إلى خوض حرب بالوكالة في أوكرانيا، فأعادت القارّة إلى الصفة التي كانت لها، صفة أنها مركز الحروب العالمية الشاملة، ونزعت عن القارة ما اكتسبت من صفات النهضة والأنوار وعلوم الأخلاق، ومفاهيم السلام.
في البند الأخلاقي، الذي هو شرط من شروط القيادة العالمية، اجتمعت أوروبا مع أميركا في موقع الاتهام باللاأخلاقية، هكذا جرى التفريط بالركيزة الأساسية لشرعية العولمة والكوكبة، والازدهار الإنساني السلمي المستدام. يتسع المجال لذكر كل الحروب "النفعية" التي خاضتها حكومات الغرب، ويحضر المشهد الفلسطيني اليوم كتحدٍّ ساطع يفضح أزمة الشرعية الأخلاقية الغربية، كتحدٍّ متقدمٍ على سائر التحدّيات.
ولأننا شرق وغرب، ولأننا عرب وعجم، ولأننا شعوب وقبائل "لم يتعارفوا"، نحتفظ للشرق، خصوصاً الجزء العربي منه بخانة الاستهداف، ونميّز بين أقطاره في تفاوت استهدافها. على سبيل المثال: يحتفظ الغرب، بقيادة السياسي الأميركي، بإدارة خاصة للعلاقات مع الخليج العربي، ويستنسب إدارة سياسات مع الدول العربية الكبرى، مصر على سبيل المثال، ويفتح أبواب الفوضى على مصراعيها لدول مثل سوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان، وبعد كل ذلك، يحتفظ الغرب، ودائماً بقيادة الأميركي، بتحديد مواقيت "قصّ جغرافيا البلدان ولصقها"، وإشعال النار وإخمادها، وإذكاء عصف التوتر وتهدئته...، وتنظيم أدبيات التهديد والوعيد، وأدبيات الضمانات والوعود... وفق سياقات متنوعة يجمعها ناظم الاستغلال والهيمنة والتسيّد، ويجمعها ناظم حشد مواقع القوة الجغرافية والاقتصادية والسياسية، في معركة الأحادية القطبية، وفي مشروع الإمساك بدفّة قيادة المجموعة العالمية.
داخل هذه اللوحة، أين هو الموقع اللبناني؟ ربما لا يتجاوز الموقع نقطة على الخريطة، وربما لا وزن له يتجاوز وزن ميناء رسو لبارجة، أو وزن بئر غاز قليل المردود، لكنه كفيل بسدّ رمق شبكة من شبكات الاستثمار العالمية. والحال، ماذا يفعل اللبنانيون وهم ليسوا غير نقطة؟ حتى تاريخه هم "مواطنون" منشغلون بأهزوجة "كم أرزة عاجقين الكون"، وهم يتقاتلون حول سلاح الداخل، وشرعية الداخل وخروج فئة منهم على الداخل... وهم مطمئنون إلى ضمانة "الامبراطور الأميركي"، الذي يقاتل بكل شيء من أجل كل شيء، لتكون "أميركا أولاً"... ثم يرتاحون في رحاب الالتحاق ببلد من هنا أو ببلدٍ من هناك، من ديار الله الواسعة.
قال الأهل، ما مفاده: "عند تبديل الدول خبّي رأسك". في لبنان يمدّون الرؤوس، لأن صاحب كل رأس يظن أن رأس جاره سيكون في المقصلة.
والحال ما هي عليه، لا بديل من لملمة الأصوات والخطابات والتحركات، والانصراف إلى قول جدّي هادئ من أجل خلاصة عاقلة موجزها: اجتناب الخسائر، أو تحديدها، أو طأطأة الرأس إبّان العاصفة. الوحدة الداخلية ممرّ إلى شيء من نجاة، أما ما سوى ذلك فانفراط عقد وطني، على خرائط التناهب الاستعمارية.
