يأتي الاتصال من بنت جبيل، بسؤال وحيد: هل سنتهجّر ثانية؟
كيف سأصيغ الإجابة؟ فالنفي في هذه الحال، كذب مكشوف ومكابرة وإنكار لوقائع متراكمة، تشير كلها إلى أن الجنوب اللبناني ما زال ميداناً عسكرياً نشطاً. ثم أنه في لحظة الاتصال الصباحي هذا، كانت المسيّرات الإسرائيلية تطنّ فوق رأسي في بيروت. السماء كلها والجغرافيا كلها مفتوحة ومنتهكة ومهددة.
وإن أتى ردي بالإيجاب، فهو تنبؤ مشؤوم قد لا يحدث. فتكرار الحرب على منوال العام المنصرم ليس أكيداً وحتمياً، رغم أن التحذيرات تنهال على لبنان من كل صوب، والمناورات الإسرائيلية قرب الحدود ليست مجرد تهويل وتخويف.
قريبي المتصل، يعرف سلفاً مثلي أن الجواب هو هذا التأرجح الخالي من أي تفاؤل. أي إما البقاء على وضعنا الحالي، مع الغارات اليومية وعمليات القصف المفاجئ، وغياب أي أمن أو استقرار، بالتوازي مع استمرار الانقسام الأهلي والسياسي والطائفي، الذي تحول إلى جبال من الضغينة وانعدام الثقة، في حرب أهلية باردة، تضع "الشيعية السياسية" في حصار وعزلة متزايدين. ويضاف إلى هذا، دولة غير مكتملة وعاجزة، وبالكاد يمكن تسميتها إدارة مدنية- سياسية لتدبير شؤون الناس.
أما الاحتمال الثاني المخيف، فهو انفلات الآلة العسكرية الإسرائيلية مجدداً، في حملة حربية مهولة، قد تكون أقسى وأشد وأشمل من حملة 2024، بالنظر إلى أن إسرائيل "ارتاحت" من حرب غزة إلى حد بعيد، وقد تتفرغ للبنان كجبهة أساسية، تطبق فيها "دروس غزة" وتكتيكاتها التدميرية.
لا احتمال ثالثاً في الأفق، منذ أن اعتنقت إسرائيل عقيدة جديدة، ما بعد صدمة 7 أكتوبر، قوامها إنشاء "مجال حيوي" خارج حدودها خال من السكان والعمران إن أمكن، وخال من أي سلاح قد يهددها، أكان سلاحاً نظامياً أو ميليشياوياً. فلا حدود دولية تعترف بها ولا ضوابط السيادة تقيدها، خصوصاً عند الحدودين اللبنانية والسورية. ويبدو أن الإرادة الدولية- الغربية "تتفهم" رغبات إسرائيل وطموحاتها، وفق قراءة العالم الخارجي ورؤيته للشرق الأوسط منذ 11 أيلول 2001، أي بوصفه مصدراً للإرهاب والأنظمة الإبادية والميليشيات القاتلة والفوضى والعنف الأهلي والديني، ومثالاً للدول الفاشلة والفاسدة.. إلخ.
وتتصلب هذه العقيدة الإسرائيلية أكثر، في لحظة إصرار "حزب الله" على التمسك بالسلاح وبكامل منظومته كـ"مقاومة"، أي بقائه كدويلة من جهة، وبقائه في الدولة كصاحب هيمنة في السياسة والأمن والقضاء..إلخ. وهو ما يعني أن لبنان الرسمي أعجز من القيام بأي خطوة أو تنفيذ أي التزام، أو صياغة أي خطة في مسار تطبيق الاتفاقات أو القرارات الدولية ذات الصلة.
وطالما أن المعادلة العربية والدولية والإسرائيلية باتت تقول أن لا سلام ولا أمن ولا استقرار بوجود سلاح يهدد إسرائيل، فإن لبنان سيبقى مهدداً بتجدد الحرب.
في الأثناء، يبدو سكان "البيئة الحاضنة" متأرجحين، بين غريزة "شد العصب" الطائفي تأييداً لحزب الله وسلاحه في حساب منازعة الطوائف الأخرى، وغريزة "النجاة" أي نبذ الحرب التي ستجلب التهجير والتدمير والموت الجماعي (أثناء كتابة هذه السطور كانت الغارات العنيفة تستهدف مناطق عدة في البقاع).
في خضم هذه الحيرة الوجودية، أو العيش وفق عبارة "على قلق كأن الريح تحتي"، تتحول الحياة إلى سؤال يومي: هل سنتهجر ثانية؟ هل ستتدمر البيوت والعمارات التي لم تدمرها الحرب الأخيرة؟ هل سنموت تحت الأنقاض؟ هل ستتبدد أعمالنا وأموالنا وأرزاقنا؟
لم أستطع الكذب على قريبي، ولا مصارحته حقاً، على عكس السياسيين اللبنانيين ووسائل إعلامهم، حيث حفلة التضليل والتضليل المضاد في ذروتها، والجميع يرقص فيها فوق رماد يخبئ الجمر.
