في عالمٍ تتمايز فيه الدول بمدى التزامها بسيادة القانون، تبرز حادثتان متزامنتان لتكشفا حجم الفارق بين نظامين سياسيين وقضائيين: الأولى، في فرنسا، حيث يخضع الرئيس السابق نيكولا ساركوزي لحكم القضاء من دون أي استثنائية أو استنسابية. والثانية في لبنان، مع قضية رياض سلامة، حيث يبدو القانون خاضعًا لتوازنات السلطة وحسابات النفوذ. علماً أن الكثير من القوانين المرعية في لبنان هي إرثٌ فرنسيٌ من أيام الانتداب الفرنسي الذي امتد من نهاية الحرب العالمية الأولى بداية القرن الماضي، حتى استقلال لبنان سنة 1943.
هاتان القضيتان -حبس ساركوزي، وإطلاق سراح حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة- تلخصان بوضوح معركة العدالة في وجه الفساد، والفارق بين دولة تحكمها المؤسسات، ودولة تتحكم بها المصالح.
فرنسا: القانون أعلى من الجميع
بدأ الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، اليوم الثلاثاء، 21 تشرين الأول/أكتوبر، تنفيذ حكم بالسجن لمدة خمس سنوات في سجن "لاسانتي" بباريس، بعد إدانته بالتآمر لجمع أموال غير مشروعة من ليبيا، لتمويل حملته الانتخابية عام 2007.
بهذا الحكم، أصبح ساركوزي أول رئيس فرنسي يُسجن منذ الحرب العالمية الثانية، في واقعة تؤكد أن القانون في فرنسا لا يفرّق بين رئيس ومواطن.
ورغم تبرئته من تهم تلقي الأموال شخصيًا، فقد أدانه القضاء بالتآمر والإضرار بالنظام العام، وقرر تنفيذ الحكم فورًا من دون انتظار نتيجة الاستئناف.
ساركوزي، الذي شغل الرئاسة بين عامي 2007 و2012، لم يُعفَ من المساءلة رغم مكانته، كما لم تشفع له انتماءاته السياسية، إذ واجه حكمًا قضائيًا صارمًا يعكس استقلال القضاء الفرنسي وصرامة مؤسساته في مواجهة الفساد.
هذه الواقعة ليست مجرد محاكمة لرئيس سابق، بل درس في دولة المؤسسات، حيث تتقدّم العدالة على السياسة والسلطة، ويُنظر إلى احترام القانون كضمان للاستقرار والشرعية.
لبنان: عندما يصبح القانون رهينة السياسة
في المقابل، يعيش لبنان مشهدًا مختلفًا تمامًا. فبعد عام من توقيفه بتهم اختلاس أموال عامة وتزوير، قام رياض سلامة بتسديد كفالة مالية بقيمة تفوق 14 مليون دولار تمهيدًا لإطلاق سراحه.
ورغم حجم الشبهات التي تطاله، والتي جعلته محور تحقيقات محلية وأوروبية، تتعلق باختلاس عشرات الملايين من أموال المصرف المركزي، فإن القضاء اللبناني وافق على إخلاء سبيله مقابل كفالة تُعد الأعلى في تاريخ القضاء اللبناني.
لكن هذه الكفالة، التي رآها كثيرون "صفقة سياسية أكثر منها إجراءً قانونيًا"، فتحت الباب أمام تساؤلات عميقة حول عدالة القضاء اللبناني واستقلاله.
فسلامة، بوصفه أحد أبرز المسؤولين عن الانهيار المالي وضياع ودائع الناس، لم يُحاسب حتى اللحظة، بينما يعاني آلاف المودعين من فقدان أموالهم وتعطّل حياتهم.
لقد تحوّل الانهيار الاقتصادي إلى مأساة إنسانية: مرضى توفوا لعدم قدرتهم على دفع تكاليف العلاج، وطلاب حُرموا من التعليم، وأسرٌ انكسرت بفعل الحجز على مدخراتها.
هكذا، يصبح القانون في لبنان أداة مساومة لا أداة عدالة، ويُستخدم لتصفية الحسابات أو حماية المتورطين، لا لمساءلتهم.
الفارق الجوهري: دولة المؤسسات مقابل دولة الحماية
ما بين فرنسا التي تضع القانون فوق الجميع، ولبنان الذي يضع البعض فوق القانون، تتجلى الفوارق الحضارية في أبسط معانيها.
في فرنسا، القضاء المستقل هو صمام أمان الجمهورية؛ أما في لبنان، فقد تحوّل إلى جزء من منظومة السلطة، يضعف أمام نفوذ السياسيين والمصالح المالية.
في دولة القانون، احترام العدالة يقوّي الدولة. أما في الدولة التي يُعطَّل فيها القانون، فإن الإفلات من العقاب يهدم ما تبقّى من ثقة الناس في وطنهم، ويفتح الباب أمام الفوضى والدمار الاقتصادي والاجتماعي.
حين تُختبر الأمم بالعدالة
خلاصة القول، ليست قوة الدول في جيوشها أو ثرواتها، بل في قدرتها على تطبيق العدالة من دون تمييز.
فرنسا تُقدّم نموذجًا لدولة تحاسب رئيسها باسم القانون، بينما لبنان يقدّم مأساة وطنٍ يحاسب فقراؤه بدلًا من فاسديه.
هكذا، يبقى السؤال الأخلاقي والسياسي معًا: متى ينتهي عهد "الصفقات" وتبدأ محاسبة من سرق ودائع الناس، أو قتلَهم، أو دمر عاصمتهم، أو استباح الدولة والبلاد؟
