بوتين والمشرق الجديد: من هدنة غزّة إلى خرائط الجنوب

خلدون الشريفالأربعاء 2025/10/22
غارات إسرائيلية على جنوب لبنان (Getty)
لبنان وغزة يشكلان اليوم مختبرين متوازيين لاختبار شكل النظام الإقليمي الجديد (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

بين غزّة والليطاني، تُعاد صياغة معادلات النفوذ في المشرق. فترامب، الذي يُتقن صناعة الصورة أكثر من بناء السلام، يقدّم هدنة غزّة على أنّها نقطة تحوّل في تاريخ المنطقة، فيما يتقدّم بوتين بخطواتٍ محسوبة، يوظّف الميدان المشرقي أداةً تفاوضيّة على أبواب أوروبا وبوّابة النظام العالمي الجديد قيد التشكل. وفي قلب هذا المشهد، يقف لبنان عند تخوم الجنوب، بين سلاحٍ يُراد نزعه وسيادةٍ يُراد تقليصها، في اختبارٍ جديدٍ لتوازنٍ أو تكاملٍ أو تنافرٍ بين واشنطن وموسكو… وبين الحرب والسِّلم.

 

سلام ترامب… بين الادّعاء والإنجاز

في الوقت الذي تحدّث فيه دونالد ترامب عن جهوده في إنهاءِ نزاعٍ بين ألبانيا (أرمينيا) وأذربيجان، وعن وساطته لوقف النار بين كمبوديا وأرمينيا (تايلند)، كان قد أدّى فعلًا دورًا حاسمًا في وقف إطلاق النار على غزّة؛ تلك الحرب التي خلّفت أكثر من سبعين ألف شهيد، ومئتي ألف جريح، ودمارًا شاملًا في رقعةٍ لا تتجاوز أربعمئة كيلومترٍ مربّع، تاركةً وراءها تداعياتٍ إنسانيّةً لن يُمحى أثرُها بسنواتٍ ولا بعقود.

وفي الوقت الذي كان فيه الموفد الرئاسي ورجل الأعمال الأميركي ستيف ويتكوف يقف أمام الحشود الإسرائيليّة شاكرًا رئيس الحكومة على "جهوده"، حيث قوبل شكرُه بالرفض والاستهجان، كانت الجماهير في تلّ أبيب خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي تهتف شاكرةً الرئيس الأميركي دونالد ترامب على "جهوده في إنهاء الحرب".

يُحبّ ترامب الأضواء ويميل إلى الإفراط في مديح ذاته، فصوّر اتفاق وقف إطلاق النار على أنّه سلامٌ تاريخيّ، قائلًا: "بعد ثلاثة آلاف عام من الفوضى والقتال… هناك سلام في الشرق الأوسط!"؛ وهو يعلم أنّ ما جرى لم يكن أكثر من وقفٍ هشٍّ لإطلاق النار، ببنودٍ عامّة وضبابيّة ومن دون سقفٍ زمنيّ، وقّعه مع الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، والتركي رجب طيّب أردوغان، والأمير القطري تميم بن حمد آل ثاني.

ومع ذلك، يُقال إنّ لترامب ما يبرّر تفاخره: فإذا نجح فعلًا في ترسيخ سلامٍ دائمٍ في غزّة، فسيستحق التباهي، وربّما يُعيد فتح الطريق أمامه نحو جائزة نوبل للسلام، ولا سيّما إن تمكّن من التوصّل إلى وقفٍ مماثلٍ للحرب بين روسيا وأوكرانيا، وهنا بيت القصيد.

 

موسكو الحذرة: من غزّة إلى كييف

في لقاءٍ على هامش أحد المؤتمرات مع خبيرٍ روسيّ واسع الاطّلاع، أكّد الرجل أنّ موسكو تسعى إلى وقف النار مع أوكرانيا اليوم قبل الغد، وأنّها كانت قادرةً على استخدام أدوات قتالٍ أشدّ فتكًا بكييف وسواها، غير أنّ فلاديمير بوتين آثر أن يُبقي كثافة الضرب منخفضة لأسبابٍ متعدّدة، أبرزها أنّه يُعوِّل على ترامب في إنهاء الحرب. وقال إنّ تزويد أوكرانيا بصواريخ "توماهوك" لأيّ سببٍ أو في أيّ وقتٍ، سيؤدّي حتمًا إلى تصعيدٍ روسيٍّ واستخدام أسلحةٍ لم تُستعمل سابقًا.

ويضيف الخبير: "لقد استطاعت أميركا أن تُعيد أوروبا إلى بيت الطاعة صاغرةً، ففرض ترامب عليها شروطه في تمويل الناتو، وتعزيز القدرات العسكريّة، ورفع الرسوم الجمركيّة. وقد أراد أن يفعل الشيءَ نفسَه مع روسيا بعد قمّته مع بوتين في ألاسكا في 15 آب/أغسطس 2025، لكنّ الثعلب بوتين فهم المقاصد الأميركيّة تمامًا، فخفّف وتيرة العمل العسكري، وأيّد نزع سلاح حزب الله في مجلس الأمن، ودعم خطة ترامب لإنهاء حرب غزّة، ووقّع اتفاق التعاون الاستراتيجي مع طهران، ونقل في الوقت نفسه رسالةً من بنيامين نتنياهو إلى الرئيس الإيراني مسعود بازشيكيان مفادها أنّ تل أبيب لا ترغب في صراعٍ مع طهران، بل تسعى إلى تجنّب تبادل الضربات. كما فتح بوتين أبواب موسكو أمام الرئيس السوري أحمد الشرع، ونسج مع الصين أفضل ما يمكن من علاقاتٍ في ظلّ تحفّظ بكين عن التورّط في أيّ نزاعٍ عسكريّ".

ويختم الخبير الروسيّ بالقول: "صار بوتين حاجةً لترامب، كما أنّ الأخير حاجةٌ له".

وفي لقاءٍ جمع ترامب بفولوديمير زيلينسكي، للمرة الثالثة خلال ثمانية أشهر في البيت الأبيض، قال الرئيس الأميركي إنّه يعتقد أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "سيوافق على السلام"، وإنّه مستعدٌّ لإنهاء النزاع المتواصل منذ الاجتياح الروسي في شباط/فبراير 2022. ومع ذلك، أجرى ترامب اتصالًا مفاجئًا ببوتين في 16 تشرين الأول/أكتوبر، اتّفقا خلاله على عقد قمّةٍ جديدة بينهما في العاصمة المجرية خلال أسبوعين.

 

لبنان في المعادلة الجديدة

هنا يبدأ البُعد اللبناني في المعادلة. فروسيا، التي قدّمت دعمًا دبلوماسيًا لجهود واشنطن في غزّة، أيّدت أيضًا في مجلس الأمن مقاربة نزع سلاح حزب الله، معتبرةً أنّ ضبط الجبهة اللبنانيّة يخدم توازنها الاستراتيجي في أوروبا. فكلّ تهدئةٍ في المشرق تمنح موسكو أوراقًا إضافية في المساومة مع الغرب، وتُظهرها كطرفٍ مسؤولٍ قادرٍ على إدارة التوتّر لا إشعاله.

في هذا السياق، يتقاطع الباحث الروسيّ مع نظيره الأوروبيّ في توصيف المرحلة الراهنة بوصفها بدايةً جدّيةً لمسار نزع سلاح حزب الله. وتشير المعطيات إلى أنّ ما يقارب ألف مخبأٍ للسلاح والذخيرة قد كُشف عنها وصودرت محتوياتها، لكنّ اللافت أنّ التعاون الأمني بين القوات الدوليّة والأميركيين والفرنسيين لم يُفضِ إلى العثور على أسلحةٍ فتاكةٍ بالمعنى الإسرائيلي، بل على مخازن ذخيرةٍ متوسّطة ومواقع لوجستيّة في مناطق مفتوحة تُستخدم للدعم والإمداد أكثر ممّا تُستخدم للقتال.

ويرى الخبير الأوروبي أنّ الحزب يُبدي استعدادًا لتنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية الموقّع في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، وتطبيق بنود القرار 1701، بما يعني حصر أيّ نزعٍ للسلاح في جنوب الليطاني. وهو غير مستعدّ لبحث أيّ نقطةٍ حول سلاحٍ خارج تلك المنطقة، ما يعني رفضه حتى اليوم تطبيق القرار 1559 أو المفهوم الغربيّ والإسرائيليّ لموضوع السلاح. وفي هذا الإطار، يعتبر الباحث الغربيّ أنّ الجيش اللبناني أنجز عملًا ممتازًا في تلك المنطقة، حيث باتت المساحات المفتوحة تخضع للفحص المنتظم، فيما لم يبدأ بعد العمل داخل الأملاك الخاصّة، وهذا ما يدفع الإسرائيليين إلى التعرّض للأملاك والأفراد حيثما كانوا.

 

الميدان اللبناني بين الردع والسيادة

لكنّ ما يثير الجدل اليوم هو مستقبل "اليونيفيل"، التي يُفترض أن ينتهي تفويضها مع نهاية عام 2026، ما سيُفضي عمليًا إلى توقّف عملياتها الميدانية من تفتيشٍ ورصد، في وقتٍ يجري فيه تقليص عدد عناصرها بنسبةٍ تقارب 25 في المئة نتيجة شحّ التمويل الأممي. وتُغطّى هذه الخطوة بذرائع تتعلّق بمنع حزب الله من إعادة بناء قدراته، غير أنّها تُسهّل، في المقابل، على إسرائيل منع إعادة إعمار الجنوب أو الاقتراب من المناطق الحدوديّة الحسّاسة.

إسرائيل، حتى لو انسحبت من النقاط الخمس المتبقّية، ستبقى محتلةً عن بُعدٍ للحدود اللبنانيّة عبر منظومات المراقبة الجوّية والإلكترونية التي تمنع أيّ نشاطٍ مدنيٍّ أو عسكريٍّ في نطاقها. ومع اقتراب موعد انسحاب "اليونيفيل"، يُطرح السؤال: ما هي السيناريوهات الممكنة للعلاقة بين الجيش اللبنانيّ وحزب الله وبيئته؟ وهل تشكّل الانتخابات الإسرائيلية المقبلة اختبارًا حاسمًا لاتّجاهات هذه المرحلة؟

ومعلومٌ أنّ الانتخابات الإسرائيلية المقبلة ستُجرى في تشرين الثاني/نوفمبر 2026، وقد أعلن بنيامين نتنياهو رسميًّا أنّه سيخوضها شخصيًّا، ما يعني أنّ لبنان سيُستَخدم مجدّدًا منصّةً لتغذية الخطاب الانتخابي الإسرائيليّ. ومن المتوقّع أن تعمد الحكومة الإسرائيلية إلى تنفيذ ضرباتٍ مركّزةٍ على مواقع لبنانية بأسلحةٍ أشدّ فتكًا، في محاولةٍ لتوظيف التصعيد العسكريّ في خدمة المعركة الانتخابيّة الداخليّة، كما جرت العادة في كلّ استحقاقٍ إسرائيليٍّ مماثل.

على هذه الخلفيّة، يبدو أنّ الجنوب مقبلٌ على مرحلة "تعايشٍ حذر" أكثر منها تسويةٌ نهائيّة. فإسرائيل لن تتخلّى بسهولةٍ عن تفوّقها الميدانيّ وأدوات ردعها عن بُعد، كما أنّ حزب الله، رغم الضغوط الاقتصاديّة والسياسيّة عليه، لن يقدّم ما يعتبره صكّ ضعفٍ في ملفّ سلاحه. وهكذا، يبقى المشهد اللبناني مؤجَّلًا إلى ما بعد نهاية عام 2026، حين يُعاد رسم حدود الدور الدوليّ والوطنيّ في الجنوب، وسط توازنٍ هشٍّ بين السلاح والسيادة، وبين الشرعيّة الداخليّة والوصاية الخارجيّة. وهنا يقول المصدر الغربيّ: "إذا بقي حزب الله ممسكًا ببيئته وحاضنته الشعبيّة، فلن يتمكّن الجيش من التحرّك بحريةٍ وإحكام سيطرته على الأرض؛ إذ تسهل عند أيّ احتكاكٍ إعادة تصوير الجيش كمنفّذٍ لأجندة العدوّ أو الأميركيّين، ما يجعل الصدام حتميًا، ويتيح للحزب إعادة الإمساك بجنوب الليطاني ضمن منظومة مقاومةٍ مختلفةٍ عن تلك التي بناها منذ عام2000".

 

من غزّة إلى الليطاني: السلام الرماديّ

في المحصّلة، يبدو أنّ لبنان وغزّة يشكّلان اليوم مختبرين متوازيين لاختبار شكل النظام الإقليميّ الجديد، حيث تُرسم الحدود بين الردع والسيادة بخيوطٍ رماديّةٍ يصعب تمييز نهاياتها. فكما أُريد لغزّة أن تكون نموذجًا لسلامٍ مؤقّتٍ يُبنى على إدارة الصراع لا إنهائه، يُراد للبنان أن يعيش تسويةً مشابهة تضمن لإسرائيل أمنها الحدوديّ من دون أن تمنح الدولة اللبنانيّة كامل سيادتها.

وفي هذا السياق، يرى الموقف الأميركيّ، كما عبّر عنه توم باراك، أنّ "لبنان وسوريا هما القطعتان التاليتان في فسيفساء السلام المشرقيّ"، وأنّ تحقيق الاستقرار فيهما يشكّل شرطًا لنجاح رؤية التجديد الإقليميّ التي يقودها البيت الأبيض. فالولايات المتحدة لا تنظر إلى الجنوب اللبنانيّ من زاوية السلاح وحده، بل من منظورٍ أوسع يسعى إلى تحويل مناطق النزاع القديمة إلى منصّات تعاونٍ اقتصاديٍّ وأمنيٍّ بإشرافٍ دوليٍّ متدرّج.

لكنّ هذا التصوّر، الذي يجمع بين الواقعيّة الأمنيّة والطموح الاقتصاديّ، يصطدم بحقائق الميدان: فإسرائيل ما زالت تعتمد منطق الردع الاستباقيّ ومنطق اليد العليا القادرة على ضرب ما تشاء، حينما تشاء، وكيفما تشاء، فيما لا يرى حزب الله في الانخراط في أيّ تسويةٍ مسلّحة سوى تنازلٍ عن جوهر دوره. وهكذا، يبقى لبنان، كما غزّة، عالقًا في المنطقة الرماديّة بين الحرب والسلام، حيث تُقاس شرعيّة الدول لا بقدرتها على بسط سلطتها، بل بمدى قدرتها على تأجيل الانفجار المقبل.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث