تسبق توقعات متفائلة داخل الكنيسة في لبنان، زيارة البابا لاوون الرابع عشر، التي ستستمرّ يومين، آخر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. زيارة تقع على "خط تماس روحيّ"، بين التوجه الذي أطلقه البابا الراحل فرنسيس ويلتزمه خليفته، وبين القيّمين على الكنيسة المحلّية التابعة للفاتيكان.
وكان البابا الراحل فرنسيس أعلن مراراً أنه يتمنّى زيارة لبنان، لكن ظروف البلاد لم تسمح وصحته لم تُمهله، ما يفسر حرص البابا لاوون الرابع عشر على تلبية رغبة سلفه الإصلاحي في رحلته الرعوية الأولى إلى الخارج بعد انتخابه.
وترتفع الآمال المؤجلة في المؤسسة الدينية الصغيرة، والتي تحتاج إلى إعادة نظر شاملة في سياساتها العمليّة منذ زمن بعيد. ولكن مَن ينتظرون نتائج ملموسة للزيارة، يحاذرون المبالغة في التوقعات، خشية الوقوع في خيبة جديدة.
فثمة اعتقاد سائد بأن الباباوات السابقين لم يستطيعوا أن يربطوا توجه كنيسة لبنان بتوجه الكنيسة العالمية، بفعل قوة نفوذ القائمين على المؤسسة في "بلاد الأرز"، ورسوخهم في مواقعهم وعلاقاتهم.
"متاهات الشكاوى" والدعوة إلى "كنيسة بسيطة"
وكان المسؤولون في الفاتيكان في ما مضى يكتفون بمتابعة دقيقة لما يحدث داخل كنيسة لبنان، ولا يتدخلون في أمورها إلا نادراً. تروي شخصية ذات علاقة وثيقة بالدوائر الفاتيكانية، في هذا السياق، أنها زارت قبل سنوات بعيدة كاردينالاً في مكتبه هناك، ولا تنسى ما سمعت منه: "هل ترى هذه الأدراج الكبيرة خلفي؟ إنها ملأى بشكاوى موارنة ضد موارنة. لن أسجّل على نفسي أنّني دخلتُ هذه المتاهات".
لكن الوضع تغيّر مع وصول الكاردينال الأرجنتيني خورخي ماريو بيرجوليو في 2013 إلى سدّة البابوية واختياره اسم "فرنسيس" تيمّناً بالقديس فرنسيس الأسيزي، "المدافع عن الفقراء والمُهمّشين". كانت مضت سنتان وقتها على انتخاب مطران جبيل بشارة الراعي بطريركاً للموارنة، في 2011، وإطلاقه شعار "شركة ومحبة" وتشكيله لجاناً لكل قضية وقطاع واقتراح.
وسرعان ما بدأ البابا فرنسيس يدعو وهو يجوب العالم إلى كنيسة بسيطة، متقشفة، تحب الفقراء، وتكرّس نفسها لخدمة السلام والعدالة الاجتماعية. ولم تنشر الكنيسة في لبنان مواقف البابا فرنسيس، ليس كما يجب على الأقل. وتبيّن بمرور الزمن أن القيّمين عليها لم يغيّروا في سلوكياتهم وأسلوب حياتهم الباذخ إلا في الشكل، وعندما كانوا في زيارات للفاتيكان. لقد راهنوا على الوقت: "شِدّةٌ وتعبُر".
وكان يُقال حتّى داخل كنيسة لبنان -همساً على الدوام، خشية خرق هالة الاحترام التي يحظى بها موقع شاغل السدّة البطريركية تاريخياً- إن البابا الراحل فرنسيس عندما كان يُندّد تكراراً بأسلوب حياة أساقفة وكهنة، وابتعادهم عن يسوع، كان يفكّر في مسؤولين عن الكنيسة في لبنان، حسموا بوضوح خيارهم الروحي بين عبادة الله وعبادة المال.
حياة ترف ودفاع عن "لصوص الهيكل"
لا مفر من الإقرار بأنّ الأوضاع المعيشية الصعبة التي يرزح تحتها اللبنانيون ضيّقت بدورها صدر الكثيرين منهم، ودفعتهم إلى توجيه أحكام غاضبة ومباشرة صوب رجال دين يحتلّون مناصب عليا. تتركز أبرز هذه الانتقادات على "إغراقهم في الترف"، الذي لا يقتصر على الفِلل والسيارات الفارهة وحبّ السفر بطائرات خاصة وجمع الثروات فحسب، بل يمتد ليشمل الاصطفاف علنًا في صفّ كبار الأغنياء.
هكذا لم يجد البطريرك الماروني حرجاً في الدفاع عن حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة وأصحاب المصارف، الذين يعتبرهم كثيرون "لصوص الهيكل" لكونهم المتسبّبين -مع مَن وضعوا أيديهم على الدولة- في إنزال نكبة مالية كبرى بالعائلات التي فقدت فجأة مدخرات أعمارها في المصارف.
وربما يُفسَّر الموقف بوجود شعور بالامتنان الدائم لدى كبار رجال الكنيسة حيال مَن يتبرعون بسخاء ويُكرّمونهم، سواء في الداخل أو المهجر، أو ما بينهما.
ورغم إدراك دوائر الفاتيكان، والرعية أيضاً، أن المطلوب ليس أن يُماثل أحدٌ في تقشفه وزهده يسوع المسيح، القائل: "لا تعبدوا ربين: الله والمال"، إلا أن التساؤل يظل قائمًا: كيف للمؤسسة الدينية أن تظل مخلصة لروحانية الفقر والبساطة، بينما يغرق كبار مسؤوليها في مظاهر الثراء وقيم المجتمع المادية السائدة؟
أصبح شائعاً داخل الرعايا وفي المؤسسة الدينية نفسها، الهمس والكلام العلني، في ظل شعور بالعجز عن فعل أي شيء، بأن القائمين على البطريركية المارونية على وجه الخصوص، وبعض المحيطين بهم، مسؤولون عن انتشار سلوكيات في المؤسسات التابعة للكنيسة تُفضّل الأغنياء وأبناءهم، حين يُفترض بالكنيسة أن تهرع إلى أبنائها المساكين قبل غيرهم.
إبعاد الفقراء عن المدارس الكاثوليكية والتناقض مع "مجمع اللويزة"
وتؤكد هذا الانطباع فكرة صادرة أساساً عن بكركي، فحواها أن على الأهالي إجراء حساباتهم جيدًا قبل تسجيل أولادهم في المدارس والجامعات التابعة للطائفة. وإذا كانوا غير قادرين على دفع الأقساط -الباهظة غالبًا، والتي عادت بالدولار إلى ما كانت عليه قبل أزمة 2019- فعليهم إرسال أولادهم إلى المدارس الرسمية.
يقول البطريرك الراعي، ويردّد قيّمون على المدارس الكاثوليكية، أن على الأهالي مخاطبة الوزراء والنواب الذين ينتخبونهم لتحسين المدارس الرسمية، إذا كان مستوى التعليم فيها لا يعجبهم. ففي النهاية، الكنيسة ليست الدولة، ولا هي المسؤولة عن التعليم في لبنان، بل وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي.
وهذا مثلٌ من أمثلة عن طريقة التفكير.
في المقابل انتشرت موجة إعجاب وغيرة في آن واحد من طائفة السريان الكاثوليك، الضئيلة العدد في لبنان، بعدما أوعز بطريركها اغناطيوس يوسف الثالث يونان بتعليم الأولاد مجاناً على حساب البطريركية، وإعفاء أهاليهم من دفع الأقساط، نظراً إلى الأزمة المالية الخانقة. وذُكر أن القرار شمل بعض أولاد عائلات من السريان الأرثوذكس أيضاً.
وعلى مرّ الأعوام تجاهلت البطريركية واقع أن مجمع اللويزة قرّر إلزاميّة التعليم ومجانيّته للفتيان والفتيات، سنة 1736، وفتح مدارس في البلدات والقرى والأديرة، قبل الثورة الفرنسية بـ53 سنة. وبذلك سبق المجمع دولاً أوروبية متقدمة مثل فرنسا وإيطاليا اللتين لم تفرضا التعليم الإلزامي ومجانيته إلا لاحقاً. وإلى حد بعيد ساهم قرار المجمع آنذاك في صعود أدوار الموارنة في السياسة والعلم والتجارة، في لبنان والمنطقة، حين كانت الأميّة شاملة بين شعوب الشرق.
أما الكنيسة المارونية فتشكو على الدوام من نزف هجرة الشباب من لبنان، لكنها بحسب منتقدي القيّمين عليها، حتى من داخلها، لا تفعل شيئاً مهمّاً لإبقائهم في أرضهم وبلادهم، وهي القادرة تعليمياً وطبياً وإسكانياً، وفي إمكانها باستغلال جيد لعامل الثقة أن تضع برامج ممكنة التطبيق للعودة إلى مقررات مجمع اللويزة، وأن تؤمن تمويل صناديق لهذه البرامج من الداخل والخارج، بدل الاكتفاء بعلاقات شخصية وثيقة بالأثرياء.
مالك عقاري ضخم ورب عمل كبير
والواقع أنّ المؤسسة الدينية المسيحية في لبنان ليست مجرد هيئة دينية، بل هي مالك عقاري ضخم لأراضٍ شاسعة على امتداد الجمهورية، تضم أملاكها 670 ديرًا للكنائس الكاثوليكية، عدا أديار الكنائس الأرثوذكسية. كما أنها رب عمل كبير يُشغّل نحو 22 ألف شخص، أي 22 ألف عائلة. ومنهم 15 ألف أستاذ وموظف في أكثر من 250 مدرسة عاملة.
كان عدد هذه المدارس 367 قبل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة واتساع نطاق الهجرة. وهي تدرّس اليوم ما يزيد على 200 ألف تلميذ، بالإضافة إلى جامعات كبرى مثل القديس يوسف (12500 طالب)، والروح القدس- الكسليك (8000 طالب)، وجامعات اللويزة والأنطونية والحكمة (نحو 15000 طالب). هذا الحجم الكبير يضع الكنيسة في قلب المعادلة الاقتصادية والاجتماعية، ويجعلها عرضة لانتقادات تُوجَّه إلى أي مؤسسة عامة.
ومعروف أن الرهبانيات تتمتع باستقلالية عن بكركي في إدارة المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية التابعة لها وتخضع لإشراف فاتيكاني. لكن البطريركية المارونية، الأكبر بين البطريركيات الكاثوليكية، هي التي ترسم السياسة العامة لهذه المؤسسات.
الدور السلبي للمقربين من البطريرك
ويقول متابعون مطّلعون، عند تناولهم أسلوب إدارة الكنيسة في لبنان، إن لكل إنسان نقاط قوته ونقاط ضعفه. وقوة البطريرك الراعي ربما تكمن في أنه عندما يقتنع بأمر ما يُقدم عليه ولا يلتفت إلى ردود الفعل. ولربما كان ضعفه في إتاحة مجالات السلطة لِمَن يقربهم إليه، مثل شاب عرّفه إليه والده، الذي كان يعمل في مقسم هاتف بكركي عندما أصبح الراعي مطراناً على جبيل، فجعله سائقه وشماسه، وبعد انتخابه بطريركاً أعطاه صلاحيات واقعية، وألقاباً بات من خلالها يدير الطائفة ومؤسساتها وممتلكاتها وهو العلماني، كما أنه شيّد بيتاً أقرب للقصر على أراضي بكركي، و"يمون" في مسائل تزيد في تشويش صورة البطريرك، الذي كان في ما مضى "يُزار ولا يزور". والظاهرة نفسها تنطبق على راهب مسرحيّ يتردد أن البطريرك أراد تعيينه مطراناً، وعندما برزت عراقيل أمام هذا التعيين، جعله أمين سرّ عام للبطريركية، وهو منصب غير موجود قانوناً، على غرار المواقع والأدوار التي يؤديها الشمّاس العلماني السابق في بكركي.
بطء العدالة الفاتيكانية وتدابيرها الصارمة الأخيرة
ويضيف المتابعون أن بطء عجلة الإصلاح الفاتيكانية في لبنان قد يكون نابعًا من الطبيعة شبه المستقلة للكنائس الشرقية، التي تتبع دائرة الكنائس الشرقية (مجمع الكنائس الشرقية سابقًا).
ويضيفون أن المسؤولين المحلّيين عرفوا أن يقيموا روابط بمسؤولين في الفاتيكان، لا سيّما من خلال مغتربين لبنانيين أثرياء جداً. إلى حد أن هذه العلاقات سمحت لأحدهم، مِمَّن يتبرعون كثيراً ويسافرون كثيراً بطائرة خاصة، بالتباهي بأنه صانع مطارنة وأكثر في لبنان، لا بل كاد أن يصبح أكثر من مرة صانع رئيس للجمهورية.
لكن المعطيات تؤكد في الوقت نفسه، في ما يخص المحاسبة، أن الكنيسة "تُحاكِم وتُحاكِم جيدًا وحتى النهاية"، وتصدر أحكامًا صارمة، والدليل على ذلك قضايا مشهودة كقضية المونسنيور منصور لبكي. لكن الإجراءات الكنسية بطيئة تستغرق وقتًا طويلًا، فهي لا تنظر في الاتهامات المبنية على "القيل والقال والشائعات"، بل تشترط تقديم شكوى وفق الأصول، مرفقة بالإثباتات والأدلة المادية، بعيدًا عن المواقف والأهواء والعواطف.
وهناك مؤشرات إلى صرامة الأحكام القضائية الفاتيكانية. فعلى سبيل المثال، صدرت أخيراً أحكام لم تُعلن بعد بفصل مسؤولين كبار في إحدى الرهبانيات، ليصبحوا "علمانيين عاديين"، وذلك لتورطهم في أعمال بيع عقارية في منطقة الحدث، ما يثبت أن عجلة العدالة الفاتيكانية تدور، وإن ببطء شديد.
وكانت الرهبانية التي خرج منها البطريرك الماروني خضعت بدورها لتحقيقات معمقة، وعُيّن مفوض حبري مُشرف عليها هو المطران حنا علوان. والتحقيق سرّي كسائر التحقيقات الفاتيكانية، ولكن تسرّب إلى أوساط كنسية أن النتائج "أكثر من سلبية".
وكانت السلطات الفاتيكانية حلّت جماعة "رسالة حياة" التي نشأت بقرار من البطريرك الماروني ووضعت علامات استفهام على أربع جمعيات أخرى نشأت هي أيضاً بقرار بطريركي، نظراً إلى عدم قدرة بكركي على مراقبتها والتثبت من سلامة أنشطتها. وبديهي أن تدبيراً كهذا يُضعف موقع بكركي وصلاحياتها أمام الفاتيكان.
حكمة من البطريرك صفير
ولخصت الأزمة المزدوجة، بين ترف بعض الرعاة وضيق حال الرعية، حكمة آسرة على لسان البطريرك الراحل نصرالله صفير، عندما كان في جولة رعوية في أميركا، وسمع من دبلوماسي عن كاهن يسيء بأعماله إلى سمعة الكنيسة المارونية هناك، فقال له: "يا ابني، فِي خوارنة ألله موَفّق فِيهُم، وفي خوارنة هِنّي موَفّقين بألله".
