ديبلوماسيّة الموفدين الخاصّين... وشخصانيّة السّياسات!

زياد الصائغالاثنين 2025/10/20
ويتكوف أورتاغوس باراك (Getty)
ديبلوماسيةُ الأفرادِ لا ديبلوماسيةُ الدولِ (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

تعيشُ الديبلوماسيةُ الدوليةُ تحوّلًا نوعيًّا في طبيعتِها ووظيفتِها. العالمُ الذي كان يُدارُ عبرَ القنواتِ الرسميّةِ للسفراءِ والسفيراتِ، وفقَ بروتوكولاتٍ راسخةٍ واتفاقياتٍ دوليّةٍ تُنظّمُ العلاقاتِ بينَ الدولِ، يشهدُ اليومَ انتقالًا متسارعًا نحوَ نمطٍ جديدٍ من الممارسةِ الديبلوماسيةِ، يقومُ على تكليفِ رؤساءِ الدولِ لموفدينَ خاصّينَ يتولَّونَ إدارةَ ملفاتٍ محدَّدةٍ خارجَ الأطرِ المؤسّسيةِ التقليديّةِ. هذهِ الظاهرةُ لم تَعُدْ استثناءً أو ظرفًا عابرًا، بل تكادُ تُصبحُ القاعدةَ الجديدةَ في السياسةِ الخارجيةِ، بما يطرحُ تساؤلاتٍ عميقةً حولَ طبيعةِ الدولةِ الحديثةِ، وحدودِ مؤسساتِها، ومآلاتِ العلاقاتِ بينَ الشعوبِ والأنظمةِ.

 

لطالما شكَّلتِ الديبلوماسيةُ الرسميّةُ ركيزةً أساسيةً في ضمانِ استقرارِ النظامِ الدوليِّ. فالسفيرُ/ة كان، تاريخيًّا، ممثِّلًا/ة شرعيًّا للدولةِ بكلِّ ما تحملهُ من عمقٍ مؤسّسيٍّ واستمراريةٍ في الموقفِ، بما يُتيحُ للدولِ التواصلَ عبرَ أدواتٍ تحكمُها التقاليدُ والعقلانيةُ، لا الانفعالاتُ أو المزاجيّاتُ الشخصيّةُ. لكنَّ الزمنَ تغيَّرَ. منذُ مطلعِ القرنِ الحادي والعشرينَ، بدأتْ ملامحُ ديبلوماسيةٍ جديدةٍ تظهرُ، حيثُ يميلُ الرؤساءُ/ ات إلى التعاملِ المباشرِ مع الملفاتِ الدوليةِ عبرَ موفدينَ خاصّينَ يتمتّعونَ بثقةٍ شخصيّةٍ وصلاحياتٍ واسعةٍ، ويعملونَ غالبًا خارجَ تسلسلِ وزاراتِ الخارجيةِ وسفاراتِها.

 

في الولاياتِ المتحدةِ مثلًا، التي تُمثّلُ نموذجًا متقدّمًا للمأسسةِ الدّولتيّة، توسَّعتْ ظاهرةُ الموفدينَ الخاصّينَ بشكلٍ لافتٍ. يُعيّنُ الرئيس/ة مبعوثينَ خاصّينَ للمناخِ، وللشرقِ الأوسطِ، ولأوكرانيا، أو لكوريا الشماليّةِ، في موازاةِ عملِ وزارةِ الخارجيةِ. تحوّلتْ هذهِ الممارسةُ إلى أداةِ نفوذٍ سياسيٍّ مباشرٍ للرئيسِ/ة. خلالَ ولايةِ الرئيس دونالد ترامب الأولى، برزَ جاريد كوشنر، صهرُهُ ومستشارُهُ، بوصفِه القناةَ الأساسيّةَ لإدارةِ ملفاتِ الشرقِ الأوسطِ، بما فيها خطّةُ السلامِ والعلاقاتُ العربيّةُ – الإسرائيليّةُ، متجاوزًا الديبلوماسيةَ الرسميّةَ. حتّى في إدارةِ جو بايدن،  إحتفظَ جون كيري بصفةِ المبعوثِ الخاصِّ للمناخِ، بصلاحياتٍ تتيحُ له التفاوضَ باسمِ البيتِ الأبيضِ، لا باسمِ الحكومة.  يعبّرُ هذا التحوّل عن رغبةٍ في تحقيقِ سرعةٍ ومرونةٍ في التواصلِ مع العالمِ، لكنّه يعكسُ أيضًا تراجعَ الثقةِ بالبنيةِ الديبلوماسيةِ المؤسّسيةِ التي باتتْ تُتَّهَمُ بالبطءِ والعجزِ أمامَ تسارعِ الأزماتِ.

 

أمّا في روسيا، فالأمرُ يأخذُ منحًى أكثرَ تركيزًا على الشخصنةِ والولاءِ السياسيِّ. الرئيسُ فلاديمير بوتين أعادَ صياغةَ الديبلوماسيةِ الروسيّةِ بحيثُ باتتْ امتدادًا مباشرًا لإرادتِه، لا تجسيدًا لموقفِ الدولةِ كمؤسّسةٍ. الموفدونَ الخاصّونَ الذينَ كلّفَهم الكرملينُ لإدارةِ ملفاتٍ كالحربِ في سوريا أو أوكرانيا أو النفوذِ في إفريقيا، يتحرّكونَ بإدارة شخصيٍّة منه، ويعملونَ بتنسيقٍ وثيقٍ مع الأجهزةِ الأمنيّةِ والعسكريّةِ. إنّهم في الواقعِ أدواتٌ تنفيذيّةٌ في منظومةِ القرارِ الرئاسيِّ، لا مجرّدَ ممثّلينَ ديبلوماسيّينَ. بذلكَ تتحوّلُ الديبلوماسيةُ الروسيّةُ إلى ساحةٍ يُدارُ فيها العالمُ وفقَ رؤيةِ الزعيمِ، لا وفقَ المصالحِ الوطنيّةِ المؤسّسةِ على منطقِ الدولةِ.

فرنسا بدورِها لم تَبْقَ بعيدةً عن هذهِ الموجةِ. في عهدِ الرئيسِ إيمانويل ماكرون، تزايدَ اعتمادُ الإليزيهِ على الموفدينَ الخاصّينَ في الملفاتِ الحسّاسةِ، من لبنانَ إلى الساحلِ الإفريقيِّ، ومن أوكرانيا إلى الشرقِ الأوسطِ. وقد تحوّلَ الموفدُ الخاصُّ إلى أداةِ تدخّلٍ مباشرٍ باسمِ الرئيسِ الفرنسيِّ، متجاوزًا دورَ وزارةِ الخارجيةِ والسفاراتِ. يُقدَّمُ هذا الخيارُ باعتبارِه وسيلةً لتعزيزِ فاعليّة السياسةِ الخارجيّةِ وتسريعِ المبادراتِ، لكنَّهُ في العمقِ يُعبّرُ عن انتقالِ مركزِ الثقلِ من الديبلوماسيةِ المؤسّسيةِ إلى الديبلوماسيةِ الرئاسيّةِ، بما فيها من طابعٍ شخصيٍّ ومزاجيٍّ.

 

بهذا المعنى، تمثّل ظاهرةَ الموفدينَ الخاصّينَ  وجهًا جديدًا لتحوّلِ الدولةِ ذاتِها، إذْ لم تَعُدِ القراراتُ تُتَّخَذُ في المؤسساتِ العميقةِ ذاتِ الخبرةِ والتوازنِ، بل في دوائرَ ضيّقةٍ مُحيطةٍ بالرؤساءِ، تتحكّمُ فيها الثقةُ الشخصيّةُ أكثرَ من المعاييرِ المؤسّسيةِ. فهل يمكنُ القولُ إنّنا انتقلْنا من زمنِ الدولِ العميقةِ إلى زمنِ المزاجيّاتِ الرئاسيّةِ؟ يبدو أنّ الجوابَ باتَ أقربَ إلى الإيجابِ، خصوصًا مع تراجعِ الدورِ التاريخيِّ للسفراءِ الذينَ كانوا يُعبّرونَ عن استمراريّةِ الدولةِ فوقَ التبدّلِ السياسيِّ.

المفارقةُ أنّ هذا التحوّلَ لا يخلو من الإيجابيّاتِ الظاهريّةِ. فالعالمُ اليومَ يعيشُ على إيقاعِ السرعةِ، والأزماتُ تتطلّبُ استجاباتٍ فوريّةً لا تحتملُ البيروقراطيةَ. لذلكَ، يُبرّرُ أنصارُ هذا النهجِ أنّ الموفدينَ الخاصّينَ يُتيحونَ للرؤساءِ التحرّكَ السريعَ والمباشرَ، ويُدخلونَ مرونةً على أدواتِ الديبلوماسيةِ. غيرَ أنّ هذهِ المرونةَ نفسَها تنطوي على خطرٍ كبيرٍ، إذْ تفصلُ بينَ السياسةِ الخارجيةِ والرقابةِ البرلمانيةِ، وتخلقُ مساحاتٍ رماديّةً تُمارسُ فيها السلطةُ بلا مساءلةٍ.

 

إنّ الديبلوماسيةَ القائمةَ على الموفدينَ الخاصّينَ تُعبّرُ عن تحوّلٍ في طبيعةِ الحكمِ أكثرَ ممّا تُعبّرُ عن تطوّرٍ في أدواتِه. فهي ديبلوماسيةُ الأفرادِ لا ديبلوماسيةُ الدولِ، قائمةٌ على الثقةِ الشخصيّةِ أكثرَ من الكفاءةِ المؤسّسيةِ، وعلى السرعةِ أكثرَ من التراكمِ. وبذلكَ يُصبحُ مستقبلُ العلاقاتِ الدوليةِ رهنًا بمزاجِ الزعماءِ، لا بعقلِ الدولةِ واستراتيجيتِها الطويلةِ المدى. وإذا كان هذا النمطُ يُلبّي متطلّباتِ اللحظةِ، فإنّهُ يُهدّدُ بتآكلِ الأعمدةِ التي قامتْ عليها الديبلوماسيةُ الحديثةُ، أيِ الاستمراريّةَ، والاحترامَ المتبادلَ، والشرعيّةَ المستمدّةَ من مؤسساتِ الدولةِ.

لقد دخلْنا فعلًا أزمنةَ الموفدينَ الخاصّينَ، حيثُ تتراجعُ الديبلوماسيةُ عن كونِها علمًا ومهنةً لتُصبحَ فعلًا سياسيًّا شخصانيًّا. وما لم يُستعَدِ التوازنُ بينَ السرعةِ والعمقِ، وبينَ السلطةِ الشخصيّةِ والمؤسّسةِ العامّةِ، فإنّ العلاقاتِ بينَ الدولِ ستفقدُ معناها المستقرَّ لتتحوّلَ إلى لعبةِ انفعالاتٍ تحكمُها نزواتُ القادةِ لا مصالحُ الشعوبِ.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث