ضربات ممنهجة تنفذها إسرائيل في الجنوب اللبناني، تستهدف خلالها كل مقومات وعوامل عمليات إعادة الإعمار، من غرف صغيرة جاهزة إلى آليات ومستلزمات بناء، مروراً بالبنى التحتية المطلوبة لعودة الحياة إلى الجنوب.
هذه الضربات ليست مجرد خطوات تكتيكية ضد حزب الله، بل قرار سياسي إسرائيلي واضح: لا عودة للجنوبيين إلى المنطقة الحدودية ولا إعادة إعمار، بدوافع سياسية وأمنية.
الاستراتيجية الإسرائيلية مقسومة إلى قسمين. الشق الأمني يقوم على تشييد مناطق عازلة في محيط إسرائيل، من غزة مروراً بلبنان وصولاً إلى سوريا. الهدف من هذه المناطق الأمنية تفادي سيناريوهات 7 اكتوبر جديدة، وإبعاد خصوم إسرائيل عن أراضيها.
الشق الآخر سياسي. فإسرائيل، ومن خلال استهدافها عمليات إعادة الإعمار ومنع الجنوبيين من العودة إلى مناطقهم وإبقائهم في حالة نزوح يشكّل ضغطًا على "حزب الله" ولبنان للموافقة على الكثير من الشروط الإسرائيلية، بينها تسليم سلاح الحزب، وربما التطبيع أو عقد الاتفاقيات الأمنية.
ولا يمكن فصل هذا الشق عن النشاط التوسعي الإسرائيلي في المنطقة. فإسرائيل الراغبة في تغيير الخرائط تسعى لتوسيع نطاق سيطرتها، وقد بدأت بمحاولات فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، والسيطرة على مناطق واسعة في عمق الجنوب السوري، ولبنان قد لا يكون بعيداً عن الأطماع التوسعية الإسرائيلية.
خطة الإعمار: ورقة ابتزاز ممنهج
تقول مصادر مطلعة لـ "المدن" إن "خطة إعادة الإعمار في الجنوب غير واردة لدى الجانب الإسرائيلي"، وتل أبيب تستخدم هذا الملف "ورقة ابتزاز وضغط على البيئة الشيعية وأهالي الجنوب".
هذا الاستغلال يتجاوز مرحلة تسليم السلاح المفترضة وغيرها من المطالب السياسية، ليؤكد أن إسرائيل لا تنوي السماح بإعمار الجنوب حتى بعد تحقيق شروطها، مما يثير مخاوف جدية من أن يتحول حق عودة أبناء الجنوب إلى قضية مزمنة توازي حق عودة الفلسطينيين منذ عام 1948، بحسب ما تشير المصادر.
أوهام "إسرائيل الكبرى"
لم تغب الأطماع التوسعية عن خطابات وخرائط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وقد روّج لمشروع "إسرائيل الكبرى" الممتد من النيل إلى الفرات. ويعد الجنوب اللبناني جزءًا أساسيًا منه، وضمن مخطط "إعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد". هذا الواقع يؤكد أن الدوافع الإسرائيلية ليست أمنية فحسب، بل سياسية، وبالتالي غير محصورة فقط بتسليم "حزب الله سلاحه" وإنهاء خطره.
في هذا السياق، وجب استحضار التجربة السورية: فبرغم تأكيد القيادة السورية الجديدة على عدم الرغبة في فتح جبهة أو مواجهة إسرائيل، سارعت الأخيرة للسيطرة على جبل الشيخ والتمدد نحو ريف دمشق الغربي. تؤكد هذه المشهدية أن كل تحرك إسرائيلي هو خدمة لمشروعها الأكبر، وأن منع عمليات إعادة الإعمار وعودة الجنوبيين إلى مناطقهم هو خطة استراتيجية لضم أو السيطرة على أجزاء من الجنوب اللبناني، سياسياً أو أمنياً.
منع الإعمار: قرار سياسي مدعوم
تدرك إسرائيل أن من يعيد إعمار الأرض يمتلك قرارها السياسي والاجتماعي، ولذا تسعى إلى ضرب القواعد المادية التي تمكن الناس من العودة. الصحافي المتخصص في الشأن الإسرائيلي، عادل شديد، يؤكد لـ"المدن" وجود "قرار سياسي إسرائيلي مدعوم أميركياً ومن بعض الأطراف العربية، بمنع إعادة الإعمار تحديدًا في الجنوب، وفي كل لبنان".
الأسطورة التوراتية والمنطقة العازلة
تكثر الروايات الإسرائيلية التوسعية. وفي هذا الإطار، يوضح شديد أنه "في حال نجحت المنطقة العازلة في جنوب لبنان ومُنعت إعادة الإعمار وعودة السكان إلى المنطقة الحدودية، قد تذكر حينها بعض الأساطير والروايات التوراتية" عن مواقع يهودية تاريخية في جنوب لبنان.
ويستذكر في هذا السياق حادثة مقتل خبير آثار أثناء محاولته الوصول إلى موقع يَدّعي أنه يهودي، ما يشير إلى احتمالية تصاعد أصوات تطالب ببناء مستوطنات في جنوب لبنان.
اذاً، فإن القرار الإسرائيلي حاسم بمنع إعادة الإعمار إلى جنوب لبنان للأسباب الأمنية والسياسية والدينية المذكورة سلفًا. وإسرائيل التي تتمتع بفائض قوة عسكرية قادرة على ترجمة قرارها إلى وقع، وبالتالي أمام لبنان مسار سياسي معقد وصعب لحلحلة هذه القضية، التي قد تستعصي ولا تتوفر لها المخارج.
