تحولات الإقليم وانتخابات العراق ما بعد المحور الإيراني

خلدون الشريفالاثنين 2025/10/20
انتخابات العراق (Getty)
إيران ما زالت اللاعب الأكثر تأثيرًا في العراق (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

 

في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، يتوجّه العراقيون إلى صناديق الاقتراع في انتخاباتٍ برلمانيةٍ تبدو، للوهلة الأولى، استحقاقًا داخليًا، لكنها في الواقع امتحانٌ شامل لتوازن القوى في إقليمٍ خرج لتوّه من حربٍ أصابت إيران وأذرعها، وتعرّض فيها العراق لضرباتٍ محدودة. وقد يشكّل الاستحقاق وحدة قياسٍ لحدود النفوذ الإيراني بعد اهتزاز محور طهران في المشرق، من غزّة إلى لبنان وسوريا التي خرجت بالكامل من المحور.

فالانتخابات المقبلة ليست مجرّد تنافسٍ بين قوائم، بل اختبارٌ لبنية النظام السياسي نفسه: هل ما زال قادرًا على إنتاج استقرارٍ داخليٍّ في ظلّ تبدّل موازين القوى في الإقليم كلّه؟

تأتي هذه الانتخابات إذًا في سياقٍ إقليميٍّ متقلّب، بعد توقيع اتفاق وقف النار في غزّة بحضور أكثر من عشرين مسؤولًا دوليًا، بينهم رئيس الحكومة العراقيّة ورئيس "تحالف الإعمار والتنمية"، الذي تعرّض لانتقاداتٍ واسعة إثر مشاركته في تلك القمّة.

أبرز الانتقادات صدرت عن زعيم "التيّار الوطني الشيعي" مقتدى الصدر، الذي كتب عبر منصّة "إكس": "اللهم إنّي أبرأ من هذا العمل مقدَّمًا"، في إشارةٍ إلى رفضه القاطع لأيّ مسارٍ سياسيّ قد يفضي إلى تقاربٍ مع إسرائيل أو القبول بمشروع التسوية الأميركيّة في الشرق الأوسط.

التحوّل الأبرز تمثّل في اللقاء الذي جمع الصدر بالمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في النجف. فقد نقل مصدرٌ من داخل التيّار لموقع العين الإخباري الإماراتي أنّ الصدر أبلغ السيستاني خلال اللقاء بوجود ترتيباتٍ لتنظيم مظاهراتٍ جماهيريةٍ واسعةٍ لأنصاره يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر، احتجاجًا على الانتخابات البرلمانية المقرَّر إجراؤها في 11 تشرين الثاني/نوفمبر.

ورغم أنّ مكتب المرجع السيستاني لم يصدر أيّ تعليقٍ رسمي حول ما دار في الاجتماع، فإنّ مراقبين رأوا في هذه الخطوة استعادةً لتقليدٍ صدريٍّ قديم في الدعوة إلى التظاهر، ما يثير تساؤلاتٍ حول مآلات المرحلة المقبلة وإمكان تصاعد المواجهة السياسيّة بين التيار الصدري وقوى الدولة المركزيّة.

 

النظام الانتخابي: عودة إلى المعادلة القديمة بثوبٍ جديد

يبلغ عدد سكان العراق نحو 46 مليون نسمة، يحقّ لنحو 30 مليونًا منهم الاقتراع، لكن اعتماد البطاقة الانتخابية البيومترية الإلزامية خفّض عدد من يستطيعون التصويت في الانتخابات المقبلة إلى 21 مليونًا، بسبب تقاعس عدد كبير من الناخبين والناخبات عن الحصول عليها.

ويصوّت الناخب وفق نظام اللوائح على مستوى المحافظة، بعدما أقرّ البرلمان العراقي في ربيع 2025 تعديلاتٍ جوهرية على القانون الانتخابي أعادت العمل بنظام سانت لاغو المعدّل (نظام انتخابي نسبي) مع اعتماد القاسم الانتخابي 1.7، منهيةً بذلك تجربة الدوائر المتعددة التي جرى تطبيقها في انتخابات 2021، حين بلغ عدد الدوائر 83.

ويبلغ عدد مقاعد البرلمان 329 مقعدًا يتنافس عليها 7,768 مرشحًا، منهم 2,248 من الإناث و5,520 من الذكور.

هذا التحوّل يعيد العراق فعليًا إلى نظام التمثيل النسبي على مستوى المحافظات (18 دائرة انتخابية)، ما يمنح الأفضلية للأحزاب الكبرى على حساب القوائم الصغيرة والمستقلّين.

ووفق آلية "سانت لاغو" المعتمدة في القانون الجديد، تُقسَّم أصوات كلّ قائمة على سلسلة أعداد (1.7، 3، 5، 7، 9…) ثم تُوزَّع المقاعد بحسب أعلى النتائج. واعتماد القاسم 1.7 يعني عمليًا أنّ الكتل الكبيرة، مثل "الإطار التنسيقي" أو الأحزاب الكردية التقليدية، ستجني مكاسب أكبر، فيما قد تتراجع فرص القوى الحزبية الصغيرة أو المجموعات الجديدة.

المدافعون عن النظام الانتخابي يعتبرونه ضمانةً ضدّ الفوضى البرلمانية التي نجمت عن تشتّت البرلمان السابق، بينما يرى منتقدوه أنّه نظام يعيد إنتاج النخب القديمة ويقوّض إمكان تمثيل الشباب والمستقلّين.

فالقانون الجديد يكرّس سيطرة القوى التقليدية على المحافظات، ويحرم الحركات الناشئة من فرصة التحوّل إلى قوّةٍ برلمانيةٍ فاعلة.

يُذكر أنّ انتخابات 2021، التي جاءت بعد حراكٍ شعبيٍّ انطلق عام 2019، فتحت الباب أمام تياراتٍ جديدة، لكن تلك الدينامية أصابها الوهن والتشرذم اليوم.

أمّا الآن، فالمشهد السياسي العراقي يبدو أكثر ضبطًا، ما دفع قوى سياسية مثل الصدر ونوّابٍ إصلاحيين إلى رفع منسوب الاعتراض وسط لامبالاةٍ شعبيةٍ جليّة، ما يمهّد لبرلمانٍ أقلّ تشتّتًا بالشكل، لكنه أكثر انضباطًا سياسيًا، يجعل تشكيل الحكومة المقبلة أسهل حسابيًا وأصعب سياسيًا من حيث التنافس الحادّ بين القوى الكبرى.

 

خريطة القوى القديمة والجديدة

إذا كانت تعديلات القانون الانتخابي قد منحت القوى التقليدية فرصةً جديدة لترميم حضورها بعدما أصابها بعض التراجع، فإنّ الخريطة الطائفية والسياسية في العراق تبدو اليوم أكثر تشظّيًا من أيّ وقتٍ مضى.

فالتوازنات داخل كلّ مكوّنٍ مذهبيٍّ لم تعد تُحكم بمعادلات النفوذ القديمة، بل بتركيبةٍ جديدة تتداخل فيها المرجعيات الدينية مع المصالح الاقتصادية، والمزاج الشعبي مع الولاءات الإقليمية.

 

أ- الساحة الشيعية… بين جناحي الإطار والتيار

تتصدّر الساحة الشيعية مشهدًا مزدوجًا داخل ما يُعرف بـ"الإطار التنسيقي"، الذي بات يضمّ جناحين متباينين:

الأول، جناح الانضباط التقليدي الملتزم بعلاقةٍ متقدّمة مع طهران، ويقوده نوري المالكي وعمار الحكيم وفصائل منضوية في الحشد الشعبي، ويعمل على تثبيت هيمنته عبر أدوات الدولة ومؤسّساتها.

والثاني، جناح البراغماتية السياسية الذي يسعى إلى قدرٍ أكبر من الاستقلال، ويتزعّمه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي نجح في بناء توازنٍ دقيق بين الإطار وبين الانفتاح على الإقليم والمجتمع الدولي.

في المقابل، يتحرّك التيار الصدري خارج هذه المنظومة كقوّةٍ احتجاجيةٍ وشعبيةٍ في آن، تستعيد حضورها في الشارع عبر الدعوة إلى المقاطعة حينًا وإلى التظاهر أحيانًا، في محاولةٍ لاختبار قدرة خصومه على إدارة الدولة من دون غطاءٍ شعبيٍّ شيعيٍّ واسع يعتقد أنّه يمتلكه.

ولعلّ المفارقة أنّ السوداني نفسه، الذي صعد من داخل الإطار، بدأ يتحرّك اليوم على هامشه، حاملًا مشروعه الخاصّ الذي لا يريح زعماء الإطار.

فالرجل الذي مثّل في البداية خيارًا توافقيًا صار يُنظر إليه كزعيمٍ محتملٍ لجناحٍ إصلاحي داخل البيت الشيعي، ما قد يعيد رسم توازنات القوى لاحقًا.

ولذلك، انقسم الإطار التنسيقي فعليًا إلى نحو عشرة تحالفاتٍ سياسية، مع وجود "أحزاب ظلّ" مدعومة من القوى الشيعية التقليدية.

غير أنّ هذا التوزّع لا يعني ذهاب تلك القوى خارج المظلّة الإيرانية، بل عودتها بعد الانتخابات إلى التحالف مجددًا تحت عنوان "الإطار التنسيقي" للحفاظ على نفوذها وسيطرتها على السلطتين التشريعية والتنفيذية.

وقد عبّر عن هذا المنطق صراحةً قائد ميليشيا "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي حين قال: "أصوات الإطار ستصبّ في الإناء نفسه بعد الانتخابات… هذا اتفاق".

إنّ نظرةً متعمّقة إلى التجربة السياسية العراقية تُظهر أنّ النفوذ الإيراني لم يتراجع كما يُروَّج، بل أعاد التموضع وفق أدواتٍ سياسيةٍ أكثر مرونة.

فإيران التي تواجه ضغوطًا متزايدة في الإقليم لن تسمح بانكفاء حضورها في بغداد، بل ستكون، على الأرجح، أكثر انخراطًا في ملفّ الانتخابات العراقية من أيّ وقتٍ مضى، مدفوعةً بما تعتبره معركة لتحديد طبيعة وجودها المستقبلي في العراق بعد تراجع نفوذها في سوريا ولبنان.

 

ب- المكوّن السُنّي والكردي… صراعات الداخل وحدود الخارج

تنشغل القوى السنية والكردية بصراعاتها الداخلية وتَزَعُّم المحافظات، وهي معادلات لا تتأثّر كثيرًا بالمتغيرات الإقليمية.

تشكّل محافظة الأنبار المعقل الأكبر للسُنّة، وتبرز فيها ثنائية محمد الحلبوسي ("تقدّم") وخميس الخنجر ("تحالف السيادة")، وللرجلين قاعدة عشائرية ورصيد سياسي وحضور في مؤسسات الدولة، لكن لكلٍّ منهما تحالفاته المتبدّلة وحساباته البغدادية.

ويُضاف إليهما مثنّى السامرائي ("عزم") كقوّةٍ ثالثة أضعف لكنها حاضرة.

في المقابل، يظهر اختراق "الإطار التنسيقي" للمشهد السني من خلال تحالفاته مع شيوخ عشائر، وبدعمٍ غير معلن من "الحشد الشعبي" الذي يسيطر على مناطق حدودية مع سوريا.

كما يبرز "تحالف الإعمار والتنمية" بزعامة محمد شياع السوداني، الذي يسعى إلى توسيع حضوره في المحافظات السنيّة من بوابة مشاريع الإعمار والخدمات، إلى جانب "ائتلاف الوطنية" بقيادة إياد علاوي وبعض قوى تشرين المستقلة.

أما الساحة الكردية فتواجه اختبار وحدةٍ صعبًا بين الحزب الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود بارزاني، المهيمن على أربيل ودهوك، والاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة بافل طالباني، المتمركز في السليمانية وبعض كركوك.

ورغم أنّ النظام النسبي يمنح الأكراد حضورًا مضمونًا، فإنّ الصراع بين الحزبين على تمثيل الإقليم ينعكس مباشرةً على العلاقة مع بغداد وعلى توزيع المناصب السيادية.

 

حضور إقليمي متوازن ولكن فاعل

لم تعد الانتخابات العراقية شأنًا داخليًا خالصًا.

فإيران ما زالت اللاعب الأكثر تأثيرًا، وإنْ بحضورٍ أقلّ سطوة مما كان عليه قبل عقدٍ من الزمن.

تعتمد طهران اليوم على شبكة علاقاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وأمنيةٍ داخل "الإطار التنسيقي"، لكنها تواجه تحدّيًا في الحفاظ على وحدته، خصوصًا مع تنامي نفوذ السوداني.

أما تركيا فتركّز على الساحة السنيّة والمناطق الشمالية من خلال أدواتٍ اقتصاديةٍ واستثماريةٍ ودعمٍ مباشرٍ لبعض العشائر.

في المقابل، تمارس دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات وقطر، حضورًا أكثر هدوءًا يقوم على التمويل الناعم والمبادرات التنموية والإعلامية، بعيدًا عن التدخّل الصريح، لكن بغايةٍ واضحة: منع انزلاق العراق مجددًا بالكامل إلى المحور الإيراني.

 

التحالفات المقبلة… إعادة تموضع لا تحوّل

بناءً على كلّ ما تقدّم، تشير المعطيات الاستراتيجية إلى أنّ التحالفات المقبلة تُصاغ، في جوهرها، لصالح الأحزاب التقليدية القائمة وعلى أسسٍ طائفية.

فقد أظهرت تعديلات القانون الانتخابي ميلًا واضحًا لصالح الكتل الكبرى، بما يُضعف فرص فوز التحالفات المستقلة أو المدنية.

في المقابل، تتزايد احتمالات المقاطعة الشعبية، خاصةً مع تنامي مشاعر الإحباط العام، ما يُنذر بتراجعٍ في نسب المشاركة مقارنة بانتخابات عام 2021.

لكنّ التحدّيات لا تقتصر على الجوانب الإجرائية أو الحزبية فحسب، بل تمتدّ إلى أزمةٍ بنيويةٍ أعمق تواجهها مختلف القوى السياسية، تتجسّد في انعدام الثقة بين الناخب والمشهد السياسي، نتيجة إعادة تدوير الوجوه ذاتها وتكرار الخطابات نفسها، وانعدام أيّ تجديدٍ فعلي في مضمون العملية السياسية.

في هذا المناخ، تبدو البرامج الانتخابية الجادّة شبه غائبة، لتحلّ محلّها شعاراتٌ طائفيةٌ أو وعودٌ خدميةٌ سطحية لا تتجاوز حدود الاستهلاك الانتخابي الموقّت.

ومن هنا، فإنّ ما تتّجه إليه التحالفات في انتخابات 2025 ليس لحظة تحوّلٍ مؤسساتي، بل محطّة لإعادة التموضع السياسي في دولةٍ أنهكتها التسويات المؤقتة وأرهقها غياب المشروع الوطني الجامع.

هنا يبرز التشابه بين الانتخابات التي جرت في العراق عام 2021 وتلك التي جرت في لبنان عام 2022، إذ استطاعت فيها قوى التغيير انتزاع عددٍ من المقاعد والدخول إلى اللعبة السياسية.

لكن، خلال ولاية المجالس في كلا البلدين، خفت الحضور وعزّزت القوى التقليدية وجودها، ما قد يترك أثرًا على قدرة قوى التغيير على إحداثه.

بانتظار نتائج الانتخابات العراقية، تصبح الانتخابات اللبنانية على الأبواب، وعندها قد يظهر التشابه بين تجربتَي التغيير بشكلٍ أوضح.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث