سُنّة بعلبك الهرمل ظلمتهم الجغرافيا: مأزقُ هويةٍ ودور وتمثيل

طارق الحجيريالأحد 2025/10/19
GettyImages-107423903.jpg
تحول سُنة بعلبك الهرمل إلى ساحةٍ مهمشةٍ سياسيًا (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

يعاني السُّنة في محافظة بعلبك – الهرمل من فقدان الدور والوزن السياسيين، نتيجة غياب الزعامات المحلية التقليدية وتراجع التمثيل النيابي الفاعل، وانكفاء الشخصيات القادرة على خلق التوازن في منطقةٍ يهيمن عليها الثنائي الشيعي.

ومع اقتراب الانتخابات النيابية، يجد سُنّة البقاع الشمالي أنفسهم أمام فراغٍ قياديٍّ غير مسبوق، يهدّد ما تبقّى من حضورٍ سياسي واجتماعي في واحدةٍ من أكثر المناطق تهميشًا على مستوى الدولة اللبنانية.

 

من حضورٍ تاريخي إلى غيابٍ كامل

يقول السياسي البعلبكي حسين صُلَح في حديثٍ إلى "المدن" إنّ السُنّة في بعلبك – الهرمل "كانوا يمتلكون حضورًا سياسيًا فاعلًا ووجوهًا مؤثرة داخل الدولة، سواء عبر المجلس النيابي أو من خلال الوجهاء والمخاتير والمشايخ الذين لعبوا دورًا وطنيًا جامعًا".

لكنّ التحوّلات الكبرى بدأت في العام 1976 مع الدخول السوري إلى لبنان، إذ "استُهدف السُنّة وطاولهم الاغتيال جسديًا أو معنويًا، ما أدّى إلى تراجع دورهم الوطني". ويضيف: "يعلم الجميع كيف حاول الرئيس رفيق الحريري إعادة التوازن، وكيف انتهت محاولته باغتياله في العام 2005".

ومع ارتدادات الحرب السورية واعتكاف الرئيس سعد الحريري "أحكم الثنائي الشيعي قبضته على المقعدين النيابيَّين السنيَّين وعلى البلديات والمؤسسات، ما أدّى إلى تغييب الصوت السني عن القرار المحلي في الإنماء والأمن والتمثيل". ويختم صُلَح بالقول: "الدور السني مرتبط بالدولة، يقوى بوجودها ويخفت لغيابها".

 

غياب المشروع الوطني

الارتباك الذي أصاب الساحة السنية في المركز انعكس مباشرةً على الأطراف. فلا مرجعية سياسية جامعة، ولا مشروع وطني موحّد يستعيد مكانة الطائفة ودورها داخل الدولة.

هكذا تحوّل سُنّة بعلبك – الهرمل إلى ساحةٍ مهمّشةٍ سياسيًا، مفتوحةٍ على نزعاتٍ عشائريةٍ ومناطقيةٍ ضيّقة، وسط تفكّك المرجعيات العائلية وغياب المؤسسات الأهلية، في انتظار بروز قيادةٍ قادرةٍ على مخاطبة الجميع بلغةٍ وطنيةٍ جامعة.

 

المفتي وملء الفراغ

في مواجهة هذا الواقع، برز مفتي البقاع الشمالي الشيخ بكر الرفاعي كصوتٍ يسعى إلى ترميم الحضور السني في المنطقة. فمنذ تولّيه الإفتاء، عمل على كسر جدار الصمت بخطابٍ وسطيٍّ يجمع بين الدعوة إلى الاعتدال ورفض التهميش.

نشط الرفاعي في إعادة التواصل مع القرى السنية النائية، وأطلق مبادراتٍ للمصالحة بين العشائر، وسعى إلى تفعيل مؤسسات دار الفتوى كمظلّةٍ دينيةٍ واجتماعيةٍ تعوّض غياب الزعامة السياسية. وفي الوقت نفسه، حافظ على علاقةٍ متوازنة مع القوى الشيعية النافذة، مدركًا أنّ المواجهة المباشرة خاسرة لتفاوت ميزان القوة، وأنّ الاعتدال هو الخيار الواقعي الوحيد المتاح.

 

التوازن الصعب

يحاول المفتي الرفاعي إعادة الطائفة إلى المعادلة من دون أن ينزلق إلى صدامٍ سياسي، مستندًا إلى قوةٍ رمزيةٍ ومعنوية. فهو يدرك أنّ أي تصعيد قد يُفسَّر كتموضعٍ في محورٍ سياسي، وأن الحفاظ على مساحة الاعتدال هو السبيل الوحيد لضمان الحضور ولو بحده الأدنى.

لكن السؤال، هل يمكن للخطاب الديني وحده أن يعوّض غياب القيادة السياسية والتنظيمية. ومع ذلك، فإنّ مبادرات الرفاعي تحظى بتقديرٍ شعبيٍّ واسع في الأوساط السنية التي تُركت لمصيرها بين ظلم الجغرافيا والأمر الواقع.

 

أزمة تمثيل وهوية

في العمق، يعكس الضعف السني في بعلبك – الهرمل أزمة تمثيلٍ وهويةٍ ودور. فالمواطن السني في المنطقة يجد نفسه بلا مرجعيةٍ سياسيةٍ حقيقية، لا يعرف إلى من يتوجّه بمطالبه أو شكواه.

النواب السُّنة التابعون للثنائي لا يمثّلون نبض القاعدة الشعبية، والدولة غائبة، والبلديات في حالة موتٍ سريري.

يصف حسين أحمد الحجيري أحد وجهاء بلدة عرسال في حديثٍ إلى "المدن" الانتخابات المقبلة بأنّها "محطة مصيرية لاستعادة التمثيل الفعلي، نكون أو لا نكون. لا نريد الهيمنة على مقاعد غيرنا، لكن مقاعدنا ليست مستباحة أو للاستتباع"، داعيًا إلى "تواضعٍ وطنيٍّ جامع، لأن مصلحة لبنان واستعادة الثقة بالدولة تتطلّبان تمثيلًا حقيقيًا يُعبّر عن الناس لا يُفرض عليهم".

ويشدّد الحجيري على ضرورة "تحالف القوى السيادية التي تؤمن بالدولة وتعمل في سبيل استعادة هيبتها وسلطتها".

 

بين الغياب والمبادرة

يجد السُنّة في بعلبك – الهرمل أنفسهم اليوم على هامش الدولة والمواطنة معًا. ولإعادة التوازن إلى هذه المنطقة، لا بدّ من مشروعٍ وطنيٍّ سُنّي جديد يعيد وصل الأطراف بالمركز، ويؤكد أنّ الشراكة تُستعاد عبر نُخَبٍ سياسيةٍ قادرة على جمع الناس لا تفريقهم وشرذمتهم.

في منطقةٍ أنهكها الإهمال والحرمان، يبقى الأمل معقودًا على وعي الناس، لاستعادة الدور لا بالسلاح والمال، بل بالموقف الوطني الجامع.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث