ستّ سنواتٍ مرّت على أحداث السابع عشر من تشرين الأول عام 2019 في لبنان، أحداثٌ استعصى على المراقبين تصنيفها بدقّة؛ فهي أقلّ من أن تُوصَف بثورةٍ أو انتفاضةٍ شاملة، وأكبر من أن تُختزل في مجرّد تظاهرةٍ عابرة. أحداثٌ لم يكن لبنان، لا شعباً ولا نظاماً حاكماً، يتوقّع أن يشهد مثلها. فحين امتلأت الشوارع بالناس في ذلك اليوم، احتجاجاً على قرارٍ حكوميّ أصدره الوزير محمد شقير بفرض ضريبةٍ على مكالمات تطبيق "واتساب" بقيمة ستّة دولارات شهرياً، لم يخطر في بال أحدٍ أنّ شرارةً صغيرة كهذه ستتحوّل إلى حراكٍ يجتاح مختلف المناطق.
غير أنّ ما جرى لم يكن مجرّد اعتراضٍ على قرارٍ وزاريٍّ عابر، بل جاء تعبيراً عن ثلاثين عاماً من المعاناة اليومية والأزمات الاقتصادية والسياسية المتراكمة. وبعد مرور ستّ سنواتٍ، خبا وهجُ السابع عشر من تشرين، غير أنّ بعض مفاعيله ما زالت قائمةً وتخضع لاختباراتٍ متكرّرة، لعلّ أبرزها يتمثّل في الانتخابات النيابية المقبلة. فبعد وصول خمسة عشر نائباً تغييريّاً، أو من أُطلق عليهم تسمية "نواب السابع عشر من تشرين"، لم يتمكّن هؤلاء من إحداث التحوّل العميق الذي طمح إليه الناس، بل تفرّقت مواقفهم في كثيرٍ من الأحيان وتلاشت وحدتهم.
واليوم، بعد ستّ سنواتٍ، يُطرح السؤال الجوهري: كيف تُرجِم حراك الشعب على أرض الواقع؟ ما هي آثاره الإيجابية؟ وما هي نتائجه السلبية أو إخفاقاته؟ وهل خضع أولئك الذين أرادوا التغيير في نهاية المطاف لسلطة نظامٍ بدا وكأنّه عصيٌّ على الانكسار؟
حراك بلا بوصلة... ضعف الرؤية وضياع القيادة
يحكم لبنان نظامٌ طائفيٌّ قائمٌ على المحاصصة وتقاسم الوظائف وتبادل الاتهامات في المسؤوليات، مع التذرّع المستمرّ بـ"حماية الطائفة" كغطاءٍ لحماية المصالح الشخصية. هذا النظام الذي يُخضِع الجميع لسلطته، كان من المفترض أن يكون الهدف الأساسي لحراك تشرين، غير أنّ الواقع اللبناني فرض على الحراك أن يسير بخطواتٍ متدرّجة، إذ لم يكن من الممكن إسقاط نظامٍ لا يقوم على شخصٍ بعينه كما في مصر أو تونس أو ليبيا، بل على شبكةٍ معقّدة من زعماء الطوائف الذين يملكون شعبيةً راسخة في بيئاتهم، وجعل كلٌّ منهم الحراك يبدو كأنه هجومٌ عليه شخصيًا، لحشد تعاطفٍ شعبيٍّ يضمن استمرار نفوذه ومكانته.
لم يحدّد القائمون على الحراك هدفًا واضحًا أو مطالب محدّدة، فكان التحرك واسعًا بلا وجهة دقيقة. وإذا أردنا تصنيف نقاط ضعف حراك تشرين، لبرزت أبرزها في:
غياب وضوح الرؤية أو المشروع السياسي، عدم تنظيم الصفوف التي بقيت في حال انقسام وتشتّت المواقف، فقدان القيادة الموحدة أو الشخصية القيادية الجامعة.
فلا يمكن لحراكٍ أن ينجح من دون رؤيةٍ وقيادةٍ ومطالبٍ محدّدة. وهذا ما أضعف مفاعيل الحراك الذي بدأ عفويًّا وشعبيًّا حقيقيًّا ثم تحوّل تدريجيًّا إلى اتهاماتٍ متبادلة واستغلالٍ سياسيٍّ وإعلاميّ من جهاتٍ عدّة.
ومع تراجع زخمه في الشارع، تمكّن الحراك من تحقيق اختراقٍ نسبيٍّ في انتخابات 2022 بوصول خمسة عشر نائبًا تغييريًّا إلى البرلمان، أُطلِق عليهم اسم "كتلة التغييريين". ورغم أنّهم لم يتمكّنوا من إحداث تغييرٍ جذريٍّ في النظام، فإنهم شكّلوا صوتًا معارضًا في بعض الملفات. غير أنّ كثراً من اللبنانيين رأوا أنّ هذا الصوت لم يكن على مستوى الآمال الكبيرة التي علّقوها عليه، ربما لأنّ الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية كانت أكثر تعقيدًا ممّا تصوّروا.
شهادة من الداخل: ملحم خلف يبرّر ويُفسّر
في هذا السياق، يشير النائب ملحم خلف في حديثٍ لـ"المدن" إلى أنّ السابع عشر من تشرين لم يكن حدثًا مفاجئًا، بل نتيجة تراكماتٍ طويلة من الممارسات غير المقبولة. ويقول خلف: "الحراك لم يكن وليد لحظته، بل نتيجة غياب الرؤية والسياسات الناجحة عبر العقود الماضية." وعند سؤاله عن مدى نجاح النواب التغييريين في ترجمة تطلّعات الناس الذين نزلوا إلى الشوارع، أجاب خلف: هل وُضعت معايير لنجاح أو فشل باقي الكتل النيابية حتى تُطبَّق علينا؟ إن وُجدت معايير واضحة، فنحن نقبل بتقييمنا وفقها، لكن لا يمكن محاسبتنا بمعايير غير مطبقة على الآخرين." ويُضيف أنّه يجب عدم إغفال الظروف الصعبة التي مرّ بها لبنان خلال ولايتهم النيابية، من الحرب الإسرائيلية على لبنان إلى الفراغين الرئاسي والحكومي الناتجين عن تعنّت القوى السياسية، وهي عوامل أثّرت بشكلٍ مباشرٍ على عملهم داخل المجلس. وحول إمكان عودة التغييريين إلى المجلس النيابي، يرد خلف بالقول: لا أستطيع التنبؤ بالمزاج الشعبي، فالناس وحدهم سيقرّرون."أما عن فكرة تغيير النظام، فيوضح خلف: من قال إننا نريد تغيير النظام؟ لم يطرح الحراك هذا الهدف أصلاً. الحراك كان تعبيرًا عن تراكمات السياسات الخاطئة التي دفعت الناس إلى الشارع."
وجهة نظر مقابلة: "17 تشرين" ليس ثورة حقيقية
وعلى الضفّة الأخرى، يقدّم عضو كتلة التنمية والتحرير النائب قاسم هاشم رأيًا مغايرًا تمامًا. في حديثٍ له مع "المدن"، يؤكّد هاشم أنّ الحركات الثورية الحقيقية عبر التاريخ أثبتت أنّ ما حدث في 17 تشرين لا يمكن وصفه بالثورة، استنادًا إلى نتائجه المحدودة.
ويقول: "الحراك افتقر إلى الهدف الواضح والقيادة الموحدة، ولم ينجح في تحقيق تغييرٍ ملموس. لقد كان وليد تقاطع مصالح داخلية وخارجية استغلّت وجع الناس ومعاناتهم."
ويضيف هاشم أنّه لا يرى أي إيجابيات حقيقية يمكن استخلاصها مما تمّ تحقيقه حتى الآن، متسائلًا: "فماذا تغيّر فعلاً؟". وعن تقييمه لأداء النواب التغييريين في المجلس النيابي، يقول: "لو سألناهم هم أنفسهم لأجابوا بـ'لا'، وقد قالوا ذلك مرارًا في تصريحاتهم."
أزمة التغييريين... تضارب الرؤى وتشتّت الصفوف
تكمن المشكلة الأساسية، على ما يبدو، في تضارب آراء القوى التغييرية، سواء بين من نزلوا إلى الشارع، أو بين الأحزاب التي دعمت الحراك، أو حتى بين النواب الذين وصلوا إلى البرلمان. إنّ مواجهة النظام الطائفي تحتاج إلى وحدةٍ ورؤيةٍ وعمقٍ في الأهداف، فترجمة آمال الناس تتطلّب صدقًا ومتابعةً ومثابرة، لا شعاراتٍ موقّتة أو خطابًا شعبويًّا. لذلك، كان لا بدّ أن تُبنى الرؤية على خطواتٍ تدريجية واقعية، خصوصًا في بلدٍ يجمع كلّ التناقضات الطائفية والسياسية والاجتماعية.
كما أنّ التعامل مع مخاوف الجماعات المتوجّسة من التغيير أمرٌ ضروري، إذ لا يمكن أن يُكتب لأي حراكٍ النجاح في غياب القيادة والرؤية والهدف.
لقد كان يوم 17 تشرين صرخةَ شعبٍ حقيقيّة، ومحطة تأسيسية لحلم التغيير والكسر مع المرحلة السابقة. حققت ثورة 17 تشرين بعض الخروقات، وخلخلت ركائز الطبقة السياسية وزرعت الشكوك فيما بين أركانها.
بين تشرينين... ما الذي تغيّر فعلاً؟
إذا نظرنا اليوم بواقعية إلى نتائج الحراك وإلى النظام القائم، تتوالى الأسئلة: هل انتهت المحاصصة؟ هل ماتت الطائفية؟ هل تمكّنا من تجاوز الفراغ والتعطيل؟
هل تغيّرت طبيعة النظام الاقتصادي؟ الجواب الواقعي: لا. فهذه الأمور لم تتغيّر بفعل الحراك، رغم أنّ كثيرين طمحوا إلى أن يتجاوز تشرين النقطة الفاصلة إلى نقطة التحوّل الكبرى في تاريخ لبنان.
فهو نجح في توجيه رسالة قوية إلى الطبقة الحاكمة: أنّ الشارع ليس في مأمنٍ دائم، وأنّ الناس قد يخرجون مجددًا من دون إنذارٍ أو عودة.
وبين 17 تشرين 2019 و17 تشرين 2025، تغيّرت أمور كثيرة؛ اندلعت حرب، وانهار الاقتصاد، وتبدّلت الموازين، لكنّ الثابت الوحيد بقي النظام نفسه، وهذا هو جوهر المسألة:
هل يمكن للقوى السياسية نفسها أن تغيّر النظام القائم، وتتخلّى عن الطائفية، وتُترجم من داخل السلطة ما كان الشعب يحلم بتحقيقه من خارجها؟ أم أن 17 تشرين ستكون أمام محطة جديدة وتاريخ جديد لاستكمال ما كان قد بدأ سابقاً على قاعدة الضغط في سبيل التغيير التدريجي؟
