ترمب يخاطب ظلّه

أحمد جابرالسبت 2025/10/18
ترمب في شرم الشيخ مصر (Getty)
المخاطر ما زالت فاغرة الفاه، في فلسطين وفي لبنان (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

أن يفقد الرجل ظلّه، هو أن يفقد هويته وقيمه، وأن ينقاد إلى سلوك الفساد والانتهازية، طلباً لارتقاء السلّم الاجتماعي وتقرّباً من ذوي النفوذ، ليكون شريكاً تابعاً في "منظومة" نفوذهم.

تلك هي حال "سامي" في كتاب فتحي غانم، الذي حمل عنوان "الرجل الذي فقد ظلّه".

بالمقارنة اللفظية، وبمقاربة تستعيد مفردة الظلّ، نستحضر رئيس الولايات المتحدة الأميركية، دونالد ترمب، بصفته الرجل الذي يخاطب ظلّه، فيكونه حين يختال سياسة، ويكون أصله حين يقتحم نور المشهد، فتصير له كل الظلال.

 

جاءنا ترمب فاتحاً مسالماً! حَمَل الاستنسابية في مقاربته للملف الفلسطيني، فكان متناقضاً، وكان موسميّاً، وكان وافر الحركة، فهذه تنوب عن بركة الفعل، عندما يأنس المرء من نفسه، أن ما يقدم عليه ينطوي على قليل من الواقع، وعلى كثير من الخيال. باختصار، أحال ترمب "الحلّ" الذي ارتضاه، إلى أزمة تمتد مجدّداً في الزمن. وحاول جاهداً أن ينسب إلى الأزمة إيّاها الثبات في المكان، من دون التفات إلى "السكان" ومع كثير من الإهمال الواضح لمعطيات الزمان.

قلنا خاطب ترمب ظلّه، نعم، وأعطى الخطاب اسم وقف الحرب، نعم، لكن ذلك لم يحجب صورته، لدى من يريد رؤية الصورة على حقيقتها. فترمب، الرجل والظل، ظلّ للنظام السياسي الذي ينتمي إليه، قدّم رمزيته العصرية متخفّفة من جوهرها الإنساني، وبعيدة من "الضميرية" التي تحفظ التوازن الأخلاقي، فتحرص فقط على المشهد السلطوي، وتزين ثقل حضورها بميزان النجاح الخارجي، ولا تعير اهتماماً للداخل الجوّاني، الذي أضحى بلا مرآة أخلاقية عاكسة. 

 

كم كان ترمب إسرائيلياً وهو يخاطب ظلّه؟ كان أقرب إلى رئيس وزراء الكيان الذي رعاه، فشابهه استعراضياً، وماثله شخصنة وشعبوية، وشاركه الشعبوية، التي صارت ظاهرة ملازمة لليمين السياسي وليساره، محليّاً وعلى نطاق عالمي.

نفى ترمب الشعب الفلسطيني، فقال نفيه بقلمٍ عاري الكلمات. لم تحضر فلسطين المستباحة منذ عقود الاستعمار الأولى، ولم تحضر المأساة الغزّاوية، وغاب مستقبل الفلسطينيين المنتظرين على أبواب الزمن، فلا ورد اسم الدولة، ولا ورد اسم استقلال الشعب في صيغة اسمية، أو في صيغة جواز سفر.

تعالى دونالد ترمب، بصوت عالٍ، وبمظهر تفوقٍ كاسح، وبأسلوب كسر المعايير الإنسانية والسياسية، ولم يفته قول "مديح الظل"، في ترسانته الحربية، التي أتاحت التفوق الميداني للعدو، هذا الذي جاء ليضمه إلى انتظام خطة سلامه.

 

هو سلام ترمبي، ضجيجه كثير، وطحنه قليل، ومع ذلك، قوبل الرجل الذي خاطب ظلّه، بما كان يتوقعه من ترحاب، أو من تهليل وتكريم وإعجاب. كانت الحفاوة متوقعة، وربما مفروضة من خلال رقابة ذاتية، على من جاء المشهد بنوايا صافية، أو من جاءه باعتقاد واقعي بضيق ذات الحال، وباتساع ضيق القدرات. هل في الأمر هجاء لمن أدرك واقعه، فالتحق بما أوتِيّ من واقع ضاغط مغاير؟

ليس الأمر كذلك، وهل كان واقعيّاً تتويج سيرة الانحدار الواقعي المتمادي، بانتفاضة يقظة مفاجئة؟ هذا من الفجاءة الشعارية التي تليق برجل يخاطب ظلّه من مكان آخر، من موقع شعبوي أو من طفرة إرادوية بلا جدوى.

لو شئنا تعميم الصورة، لقلنا إن القضايا باتت تقاس بمدى انتشار أسمائها وليس بمدى عمق جوهرها، وإن الاستجابة إلى شعارية الانتشار، وإلى سطحية المواضيع، قرّبت المستمع والمتداول والكاتب والقارئ... إلى حالة رجالٍ "فقدوا" ظلالهم، وبدّلوا سلوكهم، وركبوا مركب الانتهازية السياسية والتخلي الأخلاقي... وارتضوا حالة الصدى التابع، حين المتبوع هو الصوت والسوط وكل الظلال.

 

والحال، ما الرفض الواجب في الحالة الترمبية التي جاءتنا من دون غصن الزيتون المعتاد؟ لن يأتي الجواب من محفل الذين يسلّمون بقهر الواقعية، ولا من محفل الذين يبشرون بالثورة الدائمة. المحفلان اللذان تنزلهما "النخب" القديمة، باتا خارج "سَوْفَ"، وصارا وقعاً لـ"كان وأخواتها"، لذلك باتت الأسئلة مطروحة حول النخب الجديدة وشروط قيامها وآليات اشتغالها، وكيفية نشوئها وترعرعها في ظل حراس الهيكل القديم، ذوي الأسلحة الماضية عندما يتعلق الأمر بصراع الداخل مع داخله، وذوي السيوف المثنونة، عندما يتعلق الأمر بصراع الداخل مع ما يحيط به من أخطار خارجية.

لو استرسلنا في حديث "الظل" لقلنا إن من مدركات النخبة الجديدة الضرورية، الانتباه إلى أن من فقد ظلّه بيننا بالاستتباع، سيواصل رحلة البحث ليحط في فيء ظل آخر. لذلك، سيظل ضرورياً الالتفات إلى البنيوي المجتمعي الذي جعل النخب السياسية والفكرية، أسيرة شمس غيرها وسجينة ظلالها في الوقت ذاته. وسيظل ضرورياً تذكر مقولة "هوى المغلوب في اتباع الغالب"، ذلك أن سيطرة الانتهازية والشعبوية والاستنسابية، وتبنّي مقولات سلام القوة، ستزيّن للمنتقلين من ظلّ إلى ظلّ، التماهي مع الأقوى، والالتحاق بالقائد الرمز. هذا هو الواقع، أما في الغيب، فسيظل انتظار "المخلّص" الأبدي، جرعة صبر تضاف إلى طول أناة الصابرين.

 

وبعد، ماذا ننتظر من الرجل الذي خاطب ظلّه؟ أكثر من إشارة تدلُّ على أن الوقائع ما زالت مفتوحة على مصاعبها، وأن المخاطر ما زالت فاغرة الفاه، في فلسطين وفي لبنان، وفي سائر الأقطار العربية. نقصر الأمر على غزّة، لنقول، إن التهجير القسري الذي كان هدفاً معلناً للعدوان الإسرائيلي، ربما تحول إلى تهجير طوعي مضمر ومرغوب، بعد سيادة وصفة السلام الترمبية. أما الدولة التي اعترف بها "العالم" الديبلوماسي فقد تأكد رفضها بالتجاهل، فلم ترد على لسان ترمب، ولم تشر إليها يداه، ولم "تغمزها" عيناه، لذلك ستظل الدولة الفلسطينية حبراً على ورق، فإذا توفّرت ظروف إعلانها، فلن تكون تلك الدولة التي عرّفها اتفاق أوسلو، بل ستكون بقية دولة بعدما أكل الاستيطان الأرض، وبعدما بعثرت الحرب الشعب، ومن كان يَعْمُرُ الأرض. هل يفتح ذلك على ضرورة مراجعة ما حصل، والتنبيه مما ما زال يحصل؟ هذا مؤكد، إذ لا تسليم بمقولات المحاربين بعد وقف الحرب، والنقد الذي حجبته ضرورات المعركة، يجب أن يُدْلَقَ دفعة واحدة، ومن دون تورية أو مواربة.

نتذكر، ولن تكون لنا نعمة النسيان، إن النظام العالمي صار شبه نظام، وأن الانتظام السلمي مع محمولاته الإنسانية، وممنوعاته الدولية التوافقية، قد اهتزّ وبات أشلاء انتظام. هذه حقيقة مريعة، ومما يجعلها مريعة أكثر، هو أن من يطمح إلى قيادة الانتظام الجديد، هو الرجل الذي يخاطب ظلّه، يعاونه "الرجل الذي فقد ظلّه"...

ما أطول مسيرة المعاناة.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث