17 تشرين: السياسة بحالتها الأولى

شهيد نكدالجمعة 2025/10/17
GettyImages-1227973172.jpg
في 17 تشرين كان البحث عن الوطن (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

تبدو أن أسهل قراءة لانتفاضة 17 تشرين الأول 2019، هي تلك الّتي تُعلن نهايتَها أو تُحاكمها كمشروع سياسي فاشل. لكن 17 تشرين لم تكن أصلاً مشروعاً، بل كانت حالة. حالة ظهور جماعي في الفضاء العام، فيها تعرّف الناس إلى أنفسهم وإلى بعضهم البعض عبر المكان المشترك. هذه ليست رومنسيّة؛ هذه لحظة تأسيس. فالسياسة، قبل أن تصير مؤسسات وقوانين، هي قدرة الناس على أن يكونوا معاً في الفضاء العام.

في إحدى مسيرات زغرتا قالت لي صديقة: "أشعر بالغرابة لأنني أمشي على الطريق العام...كنت أشعر بالخجل". كان هذا الاعتراف مفتاح فهم لما شعر به الكثيرون ولم يفهموا سببَه: للمرّة الأولى نمشي كأصحاب للمكان، نشعر بأن الطّريق لنا، وأن المدينة هي للسكّان. لم تصنع تلك اللحظة مطالب بقدر ما صنعت إحساساً بالمواطنة: مواطَنة انتماء إلى مكان وناس محدّدين، لا مواطنة ليبراليّة معلّقة في الهواء. من هنا يبدأ التفريق: الدولة هي أجهزة وإجراءات، أمّا الوطن فهو معنى المكان حين نتحرّك فيه معاً. في 17 تشرين كان البحث عن الوطن سابقاً للمطالبة بإصلاح الدولة.

 

المشاعر كلحظة تأسيسية 

يعيش لبنان بنظامين يسيران معاً: نظام رسمي هو الدولة بقوانينها ومؤسّساتها، ونظام غير رسمي هو شبكة الزبائنية بعاداتها ومصالحها. وفي الغالب يميل الميزان لصالح النظام غير الرسمي، وتُعامَل الدولة كامتداد للزعامات. لذلك يصبح الحديث عن المواطنة صعباً، ليس لأن الفكرة خيالية، بل لأن العرف أقوى من القانون، والولاء أقوى من الحقّ.

بالمقابل، نحمل في لاوعينا الجماعي إرثاً من الانتقام السلبي من السلطة القمعيّة، فبدل أن نواجهَها باسترجاع "العام" وحمايته، ننقلب على "العام" نفسه، فنُضعف المعنى المشترك ونهرب إلى الخصوصيّات، ونحتال على القواعد فقط لأنّها قواعد. هذا السلوك هو نتيجة الاحتلالات والوصايات التي خضعنا لها، والتي كان خلالها "العام" ملك الغريب والمحتلّ، لا ملك الناس. فصارت حماية الذات تمرّ حكماً عبر تقويض المشترك.

والارتباط بين الزبائنية والإرث السلبي هو ارتباط عضوي؛ فكلّ ما يُضعف الفضاء العام يُقوّي الزبائنية. 

 من هنا جاءت عودة الناس إلى الساحة كقلب للمعادلتين: الزبائنية والإرث السلبي. كسرتهما لحظة 17 تشرين وأعادت "العام" إلى أصحابه، وروّضت الغضب محوّلةً إيّاه إلى ورشة البحث عن الوطن. 

المشاعر التي ظهرت وقتها كانت هي بذور السياسة ومسودّتها الأولى. البند الأوّل لهذه المسودّة كان فكّ العزلة وتحويل الناس إلى مواطنين فاعلين وانخراطهم بصناعة القرار. واتّساع الفضاء العام جعل الساحات والأنهار والشواطئ مسرحاً لاسترداد "العام" وتعريف ملكيّته المشتركة. وعلى مائدة "خبز وملح" (24 تشرين الثاني 2019)، افترشنا الساحات لنقول إن هذه الساحات هي بيوتنا، وأنّه يستحيل بناء وطن ما لم نرسّخ المفهوم الصحيح "للعام" الغائب في حياتنا وفي يوميّاتنا. وحين صار العلم اللبناني هو الراية الوحيدة التي ترفرف، تحوّل إلى التزام شخصي ممتدّ لا ينتهي مع حدث. نعم، كنّا بحاجة إلى أفكار وبرامج، لكن أن تكون وليدة هذه المشاعر والمؤشّرات وأن تُتَرجم إلى مبادئ قابلة للحياة في الفضاء العام؛ هكذا كان يجب صيانة الحالة ومراكمتها بدل خنقها بالقوالب. 

 

فكّ العزلة

من قلب هذا التحوّل، كان إنجاز 17 تشرين المركزي: أناس عاديّون دخلوا الشأن العام شركاء لا متفرّجين. صار الحالم مُلهماً، والسخيف (بمعايير النظام) محقّاً. 

ما إن وُضعت الحالة في قوالب الأوراق السياسية والمشاريع حتّى بدأت تفقد حرارتها. عندما تلتقي الناس في الفضاء العام تصبح السياسة فعلاً مفتوحاً على إمكانيات جديدة. أمّا المشروع فهو أداة لإنتاج نتيجة محدّدة، يؤدّي إلى خنق الخيال الذي اشعلته الساحات.

كانت 17 تشرين الخميرة التي تُخمِّر عجين مواطنة جديدة، وعندما استعجلناها ووضعناها في قالب مشروع أو ورقة سياسية، خرج الخبز ناشفاً: خسرنا حرارة المكان وملكيّة الناس للفعل. هنا وقع انقلاب الزمن وحرق المراحل: انتقلنا من زمن الفرصة، وهو اللحظة المناسبة التي يقوى فيها المعنى، إلى زمن الأجندة، زمن المراحل والاستحقاقات والتقارير. برد الزّخم لأنّنا خضعنا لنظام المكتب بدل نبض الشارع. الدرس بسيط: دَعوا زمن الفرصة يقود، ودَعوا التنظيم يخدمه من الخلف.. لا العكس. 

 

تعدّدية أم تشرذم؟

شعرنا في اللحظة التأسيسية أن الساحة هي الفضاء الجامع، لاحقاً تقدّمت لغة الأوراق والأجندات، وتقدّم الشعار على القاعدة الاجتماعية، فانتقلنا من تعدّدية مفيدة، إلى تشرذم يُعيد الموروث القديم الذي انتفضنا عليه أساساً: تضخّم الأنا، ذريعة الخصوصية، والخوف من الذوبان. وإذا كانت التعدّدية هي التنوّع الذي يعيش داخل فضاء جامع، فإن التشرذم هو عناوين كثيرة من دون فضاء جامع. الخروج من هذا المأزق لا يقوم على ائتلافات فوقية، وسقوف مصطنعة، وتركيبات إداريّة، بقدر ما يقوم على إعادة تفعيل الفضاء الجامع كطريقة عمل.  

 المفارقة أن كثرة الكلام عن فشل مجموعات وأحزاب ونوّاب 17 تشرين هو النّجاح بعينه. فمجرّد هذا الفصل يعني أنّنا نميّز، ولو بلا وعي وإدراك، بين الحالة وبين التنظيمات التي وُلدت على هامشها. وهذا بحدّ ذاته ممتاز؛ ما زلنا نعرف أن 17 تشرين هي حالة وليست مشروعاً. المطلوب اليوم هو إعادة الدّفع بهذه الحالة بشتّى الطرق المختلفة، من دون وهم تكرار مشهديه 17 تشرين 2019. إذا تمكّنا في كلّ ضيعة وحيّ من خلق مساحة يجتمع فيها الناس للدفاع عن العام، وفتحنا المجال للكلام العلني، وقصّرنا المسافة بين القول والفعل، نكون فعليّاً أعدنا 17 تشرين إلى الواجهة. هكذا ترجع الروح بأشكال صغيرة وواضحة، وتبقى البوصلة: وطن يسبق الدولة ويعطيها معناها. 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث