قد يكون من السابق لأوانه، ومن السذاجة التفكير اليوم في اليوم التالي بعد حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية وبسط سيطرتها وحدها على كامل التراب. خاصة وأن الرياح لا تبدو حتى الآن سائرة كما اشتهت السفن، بل إن غيومًا سودًا ما تلبث أن تتجمّع بعد كل فسحة صغيرة. ولكنه، مع ذلك، تمرينٌ نظري ضروري، سنجد أنفسنا أمامه عاجلاً أم آجلاً.
فمنذ ثلاثة عقود ونيّف، يعيش لبنان في ظل معادلة شاذّة تجمع بين دولة محدودة السيادة وكيان مسلّح يتقاسم معها قرار الحرب والسلم؛بين منطق المؤسسات ومنطق القوى الفاعلة خارجها. هذه المعادلة عطّلت الدستور، وشلّت القانون، وأفقدت اللبنانيين ثقتهم بمفهوم الدولة نفسه.
وكانت الحروب الأهلية قد توقّفت في بداية التسعينات من القرن الماضي، حين سلّمت معظم الميليشيات اللبنانية المتقاتلة أسلحتها تنفيذًا لاتفاق الطائف. ما عدا «حزب الله» الذي استمر على سلاحه وضاعفه بأوامر سورية-إيرانية. وبقية القصة باتت معروفة.
غير أنّ النقاش حول السلاح، مهما احتدم واختزل اليوم في بُعدٍ أمني أو عسكري أو حتى سياسي، فإنه غدًا سيضعنا أمام سؤالٍ جوهري:أيّ لبنان يريد اللبنانيون بعد أن تنتهي هذه المرحلة؟
أكتب هذه السطور ليس من باب التنبؤ، بل من باب التفكير في «اليوم التالي بعد السلاح»؛ أي بعد أن تستعيد الدولة سلطة العنف المشروع على كامل أراضيها، وتصبح مؤسساتها هي المرجع الوحيد في الأمن والسياسة. وبعد أن تُطوى صفحة الميليشيات، اللبنانية وغير اللبنانية، أيًّا كانت الراية التي رفعتها أو الذريعة التي احتمت بها. ومهما كانت الطريق إلى ذلك – تفاهمًا، تسويةً، ضغطًا دوليًا أو تحوّلاً داخليًا – فإنّ من المهم التفكير في ما بعده، لأن تسليم السلاح ليس نهاية المعركة، بل بدايتها الحقيقية لبناء الدولة.
أولاً: ما الذي يتغيّر حين تُصبح الكلمة للدولة؟
في اللحظة التي تستعيد فيها الدولة احتكار القوة، تبدأ عملية استعادة المعنى. فالمؤسسات، حين تُرفع عنها الوصاية أو التهديد، تستعيد قدرتها على الفعل. القضاء يمكن أن يعمل بلا خوف، والجيش يكون جيش الوطن كله لا جيش منطقة، ممنوعٌ على أخرى، والسياسة تعود فنًّا للتفاوض لا ميدانًا للمقايضة. لكن هذه الصورة، مهما بدت مثالية، لا يمكن أن تتحقّق من تلقاء نفسها، لأن غياب السلاح لا يعني بالضرورة حضور الدولة، ما لم يُستكمل بإصلاحٍ بنيوي في النظام نفسه.
ثانيًا: دولة مدنية بالتدرّج
لقد وضع اتفاق الطائف إطارًا عامًا لإنهاء الحرب، لكنه لم يؤسّس فعليًا لدولة ما بعد الحرب. النصوص التي تحدّثت عن إلغاء الطائفية السياسية وتطبيق اللامركزية بقيت مجرّد نوايا مؤجّلة، لأنّ ميزان القوى الذي رافق تنفيذ الاتفاق لم يكن يسمح بتطبيقه. غدًا، حين يزول آخر عنصر قوّة غير شرعية، سيصبح السؤال مُلحًّا: هل نبقى في نظامٍ طائفي معدّل أم صرنا جاهزين للدولة المدنية الكاملة الأوصاف؟
والانتقال إلى الدولة المدنية ليس ترفًا فكريًا ولا شعارًا نخبويًا، بل مصلحة وطنية لكل المواطنين والطوائف دون استثناء. خاصة إذا ما برزت مطالبات بإلغاء الطائفية السياسية فقط. فالطائفة التي تتوهم أنها تحتمي بالنظام الطائفي، إنما تحتمي بجدارٍ يتهاوى من الداخل: لا استقرار اقتصادي في ظلّ منطق المحاصصة، ولا عدالة في ظلّ توزيع النفوذ الخاضع دومًا لموازين قوى متغيّرة، ولا استقرار سياسي في ظلّ «فيتوات» طائفية متبادلة.ولا مساءلة لمذنب أو مرتكب إن تلحَّف بمرجعية طائفية. حتى الطوائف التي قد تشعر أنها «خاسرة» في النظام الجديد، ستكتشف أنّ الضمان الحقيقي لحقوقها لا يأتي من المحاصصة، بل من دولة القانون والمؤسسات التي تساوي بين أبنائها وتمنحهم فرصًا متكافئة وتحمي الجميع بقوة الدستور لا السلاح.
ومع ذلك ستكون «معركة الدولة المدنية»، التي تعني فيما تعني مساواة المواطنين أمام القانون بالكامل، وإلغاء الامتيازات والقوانين والمحاكم الخاصة بكل طائفة وملّة، أصعب وأشرس من «معركة حصرية السلاح». وستحتاج أيضًا إلى رافعة فعّالة، ونَفَسٍ طويل وحكمة وتراكمٍ في الإنجازات. لأننا هنا أمام «ممانعة» من داخل الطوائف كافة وليس من داخل طائفة واحدة.
لذلك، لا بدّ من خطة إصلاح دستوري تدريجية تبدأ بإصلاح النظام القائم نفسه تمهيدًا لتجاوزه . وعلى كل حال هذا ما نصَّ عليه الدستور عندما تحدّث عن خطة مرحلية لإلغاء الطائفية. وقد تشمل خطتنا النقاط الآتية:
-
إصلاحات فورية داخل النظام القائم تمنع التعطيل في الحكم «الطائفي» نفسه. ويشمل ذلك تضييق كافة المهَل المفتوحة في الدستور ووضع مِهَل محدّدة لاتخاذ القرارات في كل السلطات، بحيث لا يتمكّن رئيس أو رئيس برلمان أو رئيس حكومة أو وزير من تعطيل القرارات أو تعطيل تشكيل الحكومات أو التعيينات أو الانتخابات. فالديمقراطية لا تعني حقّ التعطيل، وإنما المشاركة واتخاذ القرار.
-
تعزيز استقلال القضاء ليكون الحَكَم بين السلطات والمواطنين على السواء.
-
إصلاح قانون الانتخاب لتشجيع اللوائح العابرة للطوائف واعتماد دوائر تُحفّز التمثيل المدني.
-
إطلاق اللامركزية الإدارية الموسّعة لتمكين المناطق من إدارة شؤونها بعيدًا عن الزبائنية المركزية، وطمأنة المجموعات المحلية إلى نصيبها من التنمية.
-
وضع قانون عصري لتنظيم الأحزاب يشجع على تجديد النخب والحياة السياسية على أسس عابرة للطوائف والمناطق.
بهذا المعنى، يصبح الإصلاح الدستوري جسرًا هادئًا نحو الدولة المدنية الحقيقية لا قفزة مجهولة يحاول كل طرف استغلالها لوَهمٍ في نفس يعقوبه الخاص.
ثالثًا: تحالفات سياسية جديدة
التحالفات التي قامت لعقود على فائض قوة السلاح ستفقد معناها. القوى التي استقوت بحليفٍ مسلّح ستجد نفسها في امتحانٍ جديد أمام الناخبين، فيما ستبرز أحزاب وقوى مدنية ناشئة تحاول بناء مشروع وطني عابر للطوائف.
أتوقع أن تنقسم القوى السياسية إلى ثلاث فئات رئيسية:
-
قوى التكيّف التي ستحاول إعادة إنتاج نفسها بوجهٍ إصلاحي دون أن تغيّر جوهرها.وواقعيًا، أتوقّع أن يميل إليها في بادئ الأمر الميزان شعبيًا ونخبويًا.
-
قوى مدنية جديدة ستستند إلى جمهورٍ شابّ وطبقات وسطى تبحث عن الدولة لا الزعيم.
-
قوى مقاومة للتغيير ستحاول تعطيل الانتقال خوفًا من خسارة نفوذها، لكنها في النهاية ستنحني أمام الواقع الجديد.
في الموازاة، قد تنشأ تحالفات وطنية عابرة للطوائف، تضم شخصيات معتدلة من كل مكوّن، هدفها حماية الانتقال السلمي نحو النظام الجديد. مثل هذه التحالفات ستكون ضرورية لكسر الشكوك المتبادلة ولتجنّب سقوط لبنان في فوضى سياسية بعد زوال سطوة السلاح.
رابعًا: خطة العمل الممكنة لما بعد السلاح
لا يمكن أن ننتقل من دولة الميليشيا إلى دولة المؤسسات بقرار سياسي فقط. قد يكون الأمثل وضع خطة متكاملة تشمل خمس دوائر مترابطة:
-
الدمج الأمني والمؤسساتي:إعادة تأهيل المقاتلين ودمجهم في الجيش أو المجتمع المدني ضمن برامج مهنية وتربوية، بإشرافٍ دولي وتمويلٍ مضمون.
-
إعادة إعمار القرى والبلدات المهدّمة وإطلاق عجلة عودة الدولة بكافة إداراتها ومؤسساتها لإنعاش إقتصاد هذه المناطق المنكوبة بالحرب وبغياب الدولة عنها لعقود.
-
عدالة انتقالية واقعية:لا يمكن طي مرحلة السلاح دون معالجة آثارها بهدوء. المطلوب آلية قضائية للحقيقة والمساءلة، على غرار تجارب بلدان خرجت من النزاعات الداخلية.
-
إصلاح اقتصادي واجتماعي عام: الدولة المنشودة لا تقوم على النوايا، بل على موارد:
-
إعادة بناء النظام المالي والنقدي بما يضمن الاستقرار والثقة،
-
إطلاق خطة إنعاش تعتمد تشجيع الانتاج المحلي وحمايته، وتفتح الاقتصاد أمام استثمارات عربية ودولية.
-
إنشاء شبكة أمان اجتماعية تحمي الفئات الأكثر تضررًا من التحولات الاقتصادية، وتربط الإصلاح الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية.
-
تحديث التعليم والضمان الصحي كمدخلٍ لإعادة بناء طبقة وسطى قادرة على حماية الاستقرار.
-
إطار إقليمي ودولي داعم:أي تسوية داخلية تحتاج إلى غطاء إقليمي ودولي يضمن عدم عودة السلاح من الباب الخلفي، عبر تفاهمات لبنانية – عربية – دولية تُعيد تثبيت حياد لبنان وحرية قراره. ولكنها تحتاج أيضًا إلى دعم مادي وتسهيلات لتمويل النهوض.
خامسًا: تحديات واقعية
الطريق نحو الدولة الجديدة لن تكون مفروشة بالورود. فهناك ثلاث عقبات أساسية:
-
الشكوك المتبادلة بين الطوائف: كثيرون سيخشون من أن يؤدي نزع السلاح إلى هيمنة طائفة على أخرى، أو إلى فقدان توازناتٍ ضمنت بقاءهم. لذلك يجب أن تكون الإصلاحات متوازنة ومبنية على ضمانات دستورية.
-
ضعف الثقة بالمؤسسات: لا يمكن مطالبة الناس بالتخلّي عن مظلاتهم الطائفية ما لم يلمسوا فعلاً أن الدولة العتيدة قادرة على حمايتهم وتأمين حقوقهم.
-
المصالح السياسية والاقتصادية المتشابكة: النظام الطائفي هو شبكة مصالح لا مجرد نصّ في الدستور. تفكيك هذه الشبكة يتطلّب وقتًا، وصبرًا، وقدرة على إنتاج بدائل واقعية يُعتمَد عليها في الخدمات والعمل والسياسة.
لكنّ هذه التحديات لا يجب أن تتحوّل إلى أعذار للتقاعس. فالإبقاء على الوضع القائم يعني استمرار الانهيار البطيء حتى من دون حرب.
سادسًا: البعد الإقليمي والعربي
لبنان لا يعيش في فراغ. «اليوم التالي» سيتأثر حتمًا بما يجري حوله. المنطقة تعيش تحولات عميقة: تطبيع عربي متزايد، إعادة رسم موازين النفوذ في الخليج والمشرق، وعودة دول عربية إلى أدوارها التقليدية في محيطها.
ولذلك، على لبنان أن يواكب المتغيرات لا أن يبقى أسيرها. يجب أن يحدّد موقعه في الخريطة الجديدة من منطلق مصلحته الوطنية، لا من منطلق المحاور.
والعالم العربي، الذي يراقب تحولات المنطقة بعينٍ واقعية، لن يساند لبنان الضعيف المنقسم، لكنه سيستثمر في لبنان المستقر الذي يملك رؤية اقتصادية وسياسية وثقافية واضحة. لذلك، يجب أن يتكامل مشروع الإصلاح الداخلي مع رؤية خارجية جديدة ترسم للبنان دورًا ما زال مطلوبًا في المنطقة، من خلال الحياد الإيجابي والانفتاح الاقتصادي والسياسي على العمق العربي وعلى العالم.
سابعًا: المشهد المقبل
لبنان اليوم التالي بعد السلاح لن يشبه لبنان الذي نعرفه. فزوال السلاح سيُسقط شبكة النفوذ القديمة، لكنه سيضع الجميع أمام مسؤولية ملء الفراغ بمشروع وطني جامع.الطوائف لن تزول، ولا أحد يطالب بذلك، لكنّها يمكن أن تتحوّل من كيانات سياسية إلى مكوّنات ثقافية وروحية داخل دولة مدنية متوازنة، كما هو الحال في دولٍ كثيرة ناجحة في العالم. الطبقة السياسية التقليدية ستقاوم، لكنّها ستُجبر على التكيّف حين تفقد أدوات السيطرة القديمة.أما القوى المدنية، فإنّ اختبارها الحقيقي لن يكون في الشارع أو على الشاشات، بل في قدرتها على تقديم مشروعٍ واقعي لا شعاراتٍ عاطفية.
أعتقد أن الفرصة التاريخية الحقيقية للبنان ستبدأ في تلك اللحظة. هل شطحتُ في خَيالي؟ ربما.
