دول المقابر الجماعية

يوسف بزيالخميس 2025/10/16
مقابر جماعية سوريا (Getty)
عشرات المقابر الجماعية في أنحاء سوريا (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

عدا نشره كخبر، بالكاد أثار الانتباه -تعليقاً وتداولاً وتفكّراً- ما كشفه تحقيق استقصائي لوكالة "رويترز"، عن عملية سرية ضخمة لنقل آلاف الجثث لمعتقلين في سجون نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، من مقبرة جماعية ضخمة إلى موقع آخر سري في قلب الصحراء، وذلك بهدف التغطية على الجريمة.

 

عملية نقل الجثث من مقبرة القطيفة الجماعية إلى الموقع المخفي حملت اسم "عملية نقل التربة"، واستمرت من العام 2019 حتى العام 2021. ثلاث سنوات من العمل بمعرفة وقيادة بشار الأسد شخصياً، لإخفاء جثث جنود وسجناء قضوا في سجون ومشافي جيش النظام.
ويوضح التحقيق أن المقبرة السرية في صحراء مدينة الضمير، تضم ما لا يقل عن 34 خندقاً بطول كيلومترين لكل خندق، ما يعني أنها أوسع المقابر الجماعية التي تم إنشاؤها خلال سنوات الثورة السورية.

ما هو مؤكد، اختفاء 160 ألف شخص داخل أقبية وسجون المخابرات المتعددة لنظام الأسد. هؤلاء، يضاف إليهم الآلاف الذين قضوا عند الحواجز العسكرية، التي غالباً ما كان يجاورها بئر أو حفرة ضخمة لإخفاء الجثث فيها. عدا عن مئات آلاف الضحايا الذين قتلوا بالقصف وبالبراميل المتفجرة وبالأسلحة الكيماوية، وبالمجازر التي لا عد لها وفق نمط مجزرة حي التضامن أو بانياس.

 

في أقل من عام، ورغم عدم وجود خطة منهجية رسمية واسعة النطاق، اكتُشفت عشرات المقابر الجماعية في أنحاء سوريا، أنشأ النظام السابق معظمها، عدا تلك التي أنشأها تنظيم داعش. ومن المرجح أن في أطراف الكثير من البلدات وفي الصحراء، وفي ضواحي المدن، ثمة مقابر جماعية مماثلة لم تُكتشف بعد.

الواقعة الجديدة التي كشفها تقرير "رويترز"، لم تُحدث أي صدمة تناسب هولها. فبدت وكأنها كما أراد الأسد تسميتها "نقل أتربة" وحسب. وعلى الأرجح، فإن أهوال غزة وأبعادها الإبادية طغت على سواها من أخبار ووقائع. فتأتي جريمة كبرى لتطمس أو تتفوق على جريمة كبرى سابقة.

وفي سوريا نفسها، يبدو أن أخبار فظائع الأسد دخلت طور الاعتياد أو كأنها اندرجت في ماضٍ يودون طيّه ونسيانه، فيما تقارير مجازر الساحل والسويداء لا تزال دماؤها ساخنة.

وعلى هذا المنوال، كانت مجازر الحروب الطائفية والمذهبية التي شهدها العراق بعد العام 2003، قد أدرجت فظاعات نظام صدام حسين (300 ألف جثة في مقابر جماعية) في الغفلة والنسيان.

 

أنظمة القسوة والتعذيب والإبادة، كما ميليشيات العنف والقتل والمجازر، هي حصيلة الخمسين سنة المنصرمة في المشرق العربي. وهذا النمط من تاريخ الجرائم الجماعية والإبادية، يتحكم براهننا ومستقبلنا، إن بأنظمة الاستبداد أو بالحروب الأهلية. ويكمن سر قابليتها للديمومة والتكرار، في انعدام أي مساءلة والرغبة في النسيان أو حتى الإنكار، بل وأيضاً التطبيع مع الجريمة والقسوة وتسويغهما، وإدراجهما في ثقافة "الموت لعدوكم" وفق ما شرح وضاح شرارة: "كان العربيّ البدويّ إذا لقي واحدًا من عشيره وأهله حيّاه بالتحيّة التي توقع عليه السلام، أي الحياة الرخوة والطيّبة والخلو من الانتهاب والغزو والسبي والغضب، وبدره بتمنّي الموت لعدوّه، وهو كلّ من ليس من قبيله. فالتحيّة العربيّة، التي أخرج منها الإسلام شطرها الثاني، أي تمنّي الموت، وقصرها على استنزال السلام ورحمة الله وبركاته، جمعت في كلّ واحد وجميع سلام الأهل والقبيل والنسيب، وموت الغريب الأجنبيّ. فكأنّ الأوّل، أي السلام، لا يحصل ولا يستتبّ إلّا بالثاني، وكأنّ الثاني شرطُ الأوّل".

والعدو أيضاً هو ما يخالفك في المذهب أو العرق أو الرأي السياسي أو المعتقد أو يعارض الحكومة، أو ينتمي لعشيرة أو طائفة أخرى، فيجوز قتله واستباحة داره وأهله وعرضه وسبي نسائه وحرق أرضه، والتنكيل بأصحابه.. وإخفاء جثته. فلا استهوال ولا استفظاع.

 

وعليه، لا تتحول واقعات المقابر الجماعية السرية المزروعة في أرجاء المشرق العربي، ولا مئات المجازر وحملات الإبادة وأعمال القتل والاغتيالات والتعذيب، إلى حقيقة سياسية- حقوقية وإلى سؤال أخلاقي "تأسيسي"، على نحو ما فعل "الهولوكست" في أوروبا (والعالم).

وهذا، إلى حد كبير، سهّل لإسرائيل أن تقترف في غزة أعمال إبادة، وفق أقوال بعض قادتها الذين استشهدوا بما حدث في سوريا من تدمير وتطهير سكاني وحرب إبادية، ليبرروا جرائم حربهم على شعب غزة، وفق منطق "تستكثرون علينا ما تسامحتم به لبشار الأسد؟" (وكان هذا لسان حال المتعصبين في تأييد إسرائيل)، وبتبجح أن النظام السوري إنما ارتكب فظائعه بشعبه لا بشعب آخر.   

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث