تتقدّم لعبة النكايات السياسية إلى الواجهة كلما اقترب موعد الاستحقاق الانتخابي. يشتد الكباش حول قانون الانتخابات خصوصاً لجهة آلية اقتراع المغتربين. أمس، تقدمت وزارة الخارجية والمغتربين خطوة إلى الأمام، فسحبت ملف اقتراع المغتربين إلى طاولة الحكومة، بإرسالها مشروع قانون معجّل إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وطلبت إدراجه على جدول أعمال أول جلسة للحكومة. ومشروع القانون يتضمن طلب إلغاء المادتين 112 و122 من قانون الانتخاب المتعلقتين باقتراع المغتربين اللبنانيين، واللتين تحصران تمثيلهم بستة مقاعد مخصصة للاغتراب، على أن يتضمن السماح للمغتربين باختيار ممثليهم الـ128 في مجلس النواب بحسب دوائر قيدهم.
خطوة من شأنها أن تضع السلطة التنفيذية امام اختبار محرج، فكيف لرئيس الحكومة نواف سلام أن يتعامل مع البند، حيث يفترض المسار القانوني، أن يُحوّل مشروع القانون عبر الحكومة إلى مجلس النواب، في حين يصر رئيس مجلس النواب نبيه بري على أن "المسألة منتهية، والقانون الحالي لا يتقدم عليه إلا القرآن والانجيل"، كما قال في تصريح سابق.
وبالتالي، المعادلة ليست بسيطة على المستويات كافة. سياسياً، المعركة مستمرة وهذا فصل جديد منها. وقانونياً، سيعاد فتح سجال دستوري حول الصلاحيات. وبين هذا وذاك، ما موقف رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون الذي يسعى إلى أن تصار الانتخابات النيابية في موعدها، لئلا يُعتبر التأجيل ضربة جديدة لعهده، خصوصاً أن الملف لم يعد شأناً داخلياً صرفاً. فجهات خارجية بدأت تمارس ضغطاً واضحاً لضمان إجراء الانتخابات في موعدها، ودفع القوى المحلية نحو تسوية تُرضي الثنائي الشيعي من جهة، وتحفظ صيغة اقتراع المغتربين للـ128 نائباً من جهة أخرى.
النتيجة حتى الآن تُختصر بمشهد شد حبال بأبعاد داخلية وخارجية، يُستهلك فيه الوقت، خصوصاً أن الانتخابات لم تصبح بعد أمراً واقعاً، بل على العكس، فالاحتمالات مفتوحة على كل الفرضيات، أولها التأجيل.
ستة مقاعد إضافية
ويشهد لبنان جدلاً سياسياً واسعاً، بين من يطالب بتعديل قانون الانتخابات بما يسمح للمغتربين اللبنانيين بالاقتراع وفق دوائرهم الأصلية في لبنان، بدلاً من الآلية المعتمدة حالياً التي تخصّص لهم ستة مقاعد إضافية في البرلمان يجري انتخابها على أساس تمثيل اللبنانيين غير المقيمين. وبينما يصرّ "حزب الله" وحلفاؤه و"التيار الوطني الحر" على التمسك بتطبيق القانون النافذ كما هو، يدعو المطالبون بالتعديل إلى شطب المادة 112 من قانون الانتخابات التي تنص على أن "المقاعد المخصَّصة في مجلس النواب لغير المقيمين هي ستّة، تُحدّد بالتساوي ما بين المسيحيين والمسلمين، وبالتساوي بين القارات الستّ، على أن يصبح عدد أعضاء المجلس 134 نائباً في الدورة الانتخابية التي سوف تلي الدورة الأولى التي ستجري وفق هذا القانون"، إلى جانب إلغاء المادة 122 أيضاً.
المسار الدستوري لمشروع القانون
وبحسب المسار الدستوري، يُفترض على الحكومة أن تتبنى المشروع، وبعد موافقتها تحيله إلى مجلس النواب. وعند وصوله إلى البرلمان هناك ثلاث مسارات محتملة داخل مجلس النواب، وجميعها تمر حكماً عبر رئيس المجلس نبيه بري، يفندها الباحث في "المؤسسة الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين لـ"المدن". المسار الأول: "الجارور"، هنا يملك بري صلاحية عدم إدراج المشروع على جدول أعمال الهيئة العامة. بذلك، يُجمَّد المشروع عملياً من دون الحاجة لاتخاذ أي قرار علني. المسار الثاني، عرضه على الهيئة العامة مباشرة. وبهذه الحالة، إذا عُرض المشروع على جلسة عامة ولم يُبتّ به خلال 40 يومًا، يعتبر نافذًا حكماً بحسب الدستور. وبالتالي هذا السيناريو يُعتبر شبه مستحيل في الحالة اللبنانية، لأنه يمنح المشروع فرصة المرور التلقائي وهو ما لن يسمح به بري سياسيًا.
أمّا المسار الثالث، فإحالة مشروع القانون إلى لجنة الإدارة والعدل. يحيل بري المشروع إلى اللجنة لدرسه، وبعد الدرس تُعيد اللجنة المشروع إلى الهيئة العامة للتصويت. ولا يوجد في هذا المسار مهلة 40 يومًا، ما يعني أن المشروع يمكن أن يبقى في اللجان إلى ما لا نهاية.
شري: موقفنا واضح، كما قال بري
والانقسام الذي يشهده لبنان حيال ملف اقتراع المغتربين، يتصدر المشهد الانتخابي. وكلّ فريق على موقفه. فكيف يقرأ المتنازعون، ما صدر أمس عن وزارة الخارجية والمغتربين؟ يقول عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" أمين شري في حديث لـ"المدن" إن موقف الثنائي من ملف اقتراع المغتربين "يتم التعامل معه من المنظور القانوني، على عكس الطرف الآخر الذي يطالب بتعديل القانون من المنظور السياسي البحت". ورداً على مشروع القانون المعجل من وزارة الخارجية، يشير شري إلى أن هناك "قانوناً نافذاً، ويجب على الوزارات المعنية أن تحضر للانتخابات على أساسه"، وعندما يصل مشروع القانون إلى مجلس النواب، عندها "لكل حادث حديث". ويتابع شري: "لنرَ الحكومة ماذا ستفعل.. أما نحن فموقفنا واضح وكما قال الرئيس نبيه بري، لا يتقدم على القانون النافذ حالياً إلا الإنجيل والقرآن".
كلام شري إلى حد كبير يطرح الكرة في ملعب رئيس الحكومة، الذي لا يتوقع أن يدخل في صدام جديد مع الثنائي بعد "واقعة الروشة"، وبالتالي التساؤل عما سيكون موقفه من طلب وزارة الخارجية، وبالتالي المسألة وبحسب تعليق شري "واقفة على سلام".
يذهب شري في حديثه إلى أبعد من ذلك، يتطرق إلى ما يسميه "العدالة في الاختيار والاقتراع"، مؤكداً أنه "لا توجد مساواة بين الناخبين.. فالناخب الذي يختار أمل وحزب الله للتصويت لمرشحيهما، وهو في الخارج لا يمكنه التعبير عن ذاته بحرية".
وعن آلية اقتراع المغتربين وفق للقانون الحالي، أعاد شري التذكير بأنه في العام 2021، كلفت الحكومة حينها الأمين العام لوزارة الخارجية والمغتربين السفير هاني الشميطلي، والمديرة العامة للشؤون السياسية واللاجئين في الداخلية فاتن يونس، إعداد تقرير عن انتخابات المغتربين وفق القانون. وبحسب شري "صدر تقرير يتحدث عن كل الإجراءات اللوجستية وآلية الفرز، وأفضت النتائج إلى أن كل الإجراءات سهلة". وتساءل شري: "لماذا إذاً لا تقوم الحكومة بواجبها".
حاصباني: حركة تصحيحية للخارجية
في المقابل، يرى عضو كتلة "الجمهورية القوية" النائب غسان حاصباني أنّ وزارة الخارجية والمغتربين قامت بخطوة إضافية، "بعدما تبين لها عدم حصول أي تقدم في اللجنة المكلفة بمتابعة قانون الانتخاب، فكانت خطوة الخارجية لطرح حركة تصحيحية في هذا المسار". ويقول في حديث إلى "المدن" إن وزير الخارجية يوسف رجّي "أمامه قانون يكتنفه الكثير من الغموض والثغرات، والمغتربون يطالبون بتصحيحها، ومن واجبه القيام بهذه الخطوة. ويجب بالتالي على الحكومة أيضًا أداء واجبها، ومجلس النواب بطبيعة الحال".
ويتابع: "يقترح الوزير الحل، وعلى مجلس الوزراء الموافقة عليه وطرحه على مجلس النواب، خصوصًا أن من صلب عمل الحكومة طرح مشاريع القوانين. وعلى مجلس النواب من جانبه أن يتجاوب". وفي ما يخص صلاحية الرئيس بري بعدم عرض القانون على الهيئة العامة، يقول حاصباني: "إذا لم يطرحه بري واتخذ قرارًا أحاديًا، فهذا يشكل نوعًا من العرقلة، خصوصًا إذا أرسلت الحكومة مثل هذا القانون، وعندها لكل حادث حديث"، لافتاً إلى "أننا ما دمنا قادرين على طرح الحلول قبل الانتخابات، فلماذا ننتظر حتى موعد الانتخابات لنعرقل النتائج وتحدث الطعون؟".
وحول من يخاف من الإلغاء أو تعديل القانون، يقول حاصباني "من منطلق العدالة، لا يجوز أن يُعامل المغترب بشكل غير عادل، حتى لو كان هناك خطأ في القانون السابق. وقد قامت الحكومة اليوم بتوضيح الإشكاليات"، لافتاً إلى أن "المغتربين أنفسهم أثبتوا رغبتهم بالتصويت وفق قيدهم في لبنان، وهناك عرائض تثبت ذلك، وهم لهم كامل الحق في المشاركة في الحياة السياسية، خصوصًا أن للمغترب دورًا كبيرًا في الاقتصاد، إذ تشكل عائدات المغتربين نحو 20% من الناتج المحلي".
فماذا عن عدم المساواة في حرية المغتربين بالاقتراع لمن يؤيدون، وكيف تتعاطى "القوات" مع هذه المسألة، يجيب حاصباني: "من لا يملك حرية الاقتراع في بلد ما، لديه الحرية للحضور إلى لبنان والتصويت، بينما هناك لبنانيون في الداخل لا يملكون حرية التصويت تحت تهديد السلاح. نحن نضع التشريعات للحالات العامة وليس الخاصة. وما يقال عن قيود على المغترب غير صحيح، فالاقتراع في السفارات يتم بشكل سري".
في خضم هذه المناورات السياسية والدستورية، يبقى ملف اقتراع المغتربين مؤشرًا واضحًا على حجم التعقيدات التي تواجه الانتخابات اللبنانية. فهل ينجح الأفرقاء في حماية حقوق المغتربين أم سيبقى الشد والجذب السياسي هو سيد الموقف؟
