"اليوم التالي" بعد غزّة: هل يبقى لبنان وحيدًا؟

بتول يزبكالثلاثاء 2025/10/14
غارات عنيفة على غزة (Getty)
بعد غزة، لن يبقى شيءٌ على ما كان عليه. (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

"نحن نبني مستقبلاً جديدًا، الرّوابط التّجاريّة الّتي سننشئها هنا ستكون بين تلّ أبيب ودبي، وبين حيفا وبيروت، وبين القدس ودمشق، وبين إسرائيل ومصر والسعوديّة وقطر". هذا ما قاله الرّئيس الأميركيّ دونالد ترامب من على منبر الكنيست الإسرائيليّ، مضيفًا، كما تسرّب إلى بيروت، أنّ "خنجر حزب الله المصوّب إلى حلق إسرائيل قد تحطّم بالكامل"، وأنّ واشنطن "تدعم فعليًّا" الرّئيس اللّبنانيّ الجديد في مهمّة "نزع سلاح حزب الله بشكلٍ دائم". عبارةٌ واحدةٌ كهذه تكفي لتفتح ملفّ "لبنان ما بعد غزّة" على مصراعيه، ماذا يريد ترامب؟ كيف يقرأ العهد الرّئاسيّ رسالته؟ وأين تقف القوى اللّبنانيّة من مشهدٍ إقليميٍّ يتبدّل بسرعةٍ غير مسبوقة؟

 

مفترقٌ حادّ، عزلةٌ وحرب… أم سلّمٌ إلى تسوية؟
لئن استعصى الاستشراف التامّ لمآلات اتّفاق غزّة وآليّات تطبيقه، فإنّ الواجهة العريضة للشرق الأوسط، على لسان "راعيه" الأميركيّ، باتت أوضح من ذي قبل. وفيما تعاد صياغة منظومةٍ كاملةٍ من القوى والأفكار في المشرق، ينعزل اللبنانيّون عن نقاشٍ حيويٍّ حول مصير بلادهم، تحلّ محلّه مناوشاتٌ داخليّةٌ تبدّد الطاقات. لكنّ لبنان، هذه المرّة، عند مفترقٍ لا لبس فيه، إمّا عزلةٌ تتبعها حربٌ طاحنة تجبره، طوعًا أو كرهًا، على المثول أمام "الهندسة" المستجدّة، وإمّا الالتحاق بالرّكب عبر علاج ملفّ السّلاح أوّلًا، وقد صار قرين بقاء الدّولة أصلًا. البحث هنا لا يتعلّق بشعارٍ أو هتاف، بل بترتيباتٍ صلبةٍ على حدودٍ مشتعلةٍ منذ سنوات، وبنظام أمنٍ إقليميٍّ جديدٍ يعد بإغراءاتٍ اقتصاديّةٍ لمن يحسن التكيّف، ويلوّح بعقوباتٍ وخياراتٍ خشنةٍ لمن يعارض.

 

من مسقط إلى الجنوب، الزمن الإيرانيّ – الأميركيّ
الملفّ، في جوهره، مرتبطٌ بمسار التّفاوض الإيرانيّ ـ الأميركيّ. تكشف مصادرٌ دبلوماسيّةٌ (راجع "المدن") عن وساطاتٍ دخلت بين واشنطن وطهران، وتحضيرٍ لجولة محادثاتٍ مباشرةٍ في عمان. وفيما يستمرّ الضّغط الأميركيّ والإسرائيليّ على إيران، بالتّلويح بعمليّاتٍ عسكريّةٍ داخل أراضيها، يوضع طهران بين خيارين، ضربةٌ كبرى تهدّد النّظام، أم قبولٌ بشروطٍ باتت معروفة، وقف تخصيب اليورانيوم بالكامل، والتخلّي عن برنامج الصّواريخ الباليستيّة، ووقف دعم الحلفاء الإقليميّين ودفعهم إلى التخلّي عن أسلحتهم. معنى ذلك في بيروت واضح، "اليوم التالي" في غزّة ليس جزيرةً معزولة، بل مفتاحٌ لسلسلة إعادة تموضعٍ تمتدّ إلى جنوب لبنان.

قبل يومين، دان الرّئيس جوزف عون غاراتٍ إسرائيليّةً على الجنوب بعد وقف النّار في غزّة، وسأل صراحةً إن كانت إسرائيل توسّع دائرة النّار نحو لبنان، في رسالة تحذيرٍ تثبّت أولويّة حماية المدنيّين وترفض "تطبيع" الخروقات بعد الهدنة. أمّا اليوم، فانتقل الخطاب الرّئاسيّ خطوةً إلى الأمام، الدّعوة إلى التفاوض مع إسرائيل وعدم بقاء لبنان خارج ترتيبات التسويات الإقليميّة، مع تشديدٍ على ضرورة التزام إسرائيل وقف العمليّات شرطًا لمناخٍ تفاوضيّ. التحوّل من ردّ الفعل إلى مبادرةٍ سياسيّةٍ يضع رئاسة الجمهوريّة في قلب هندسة "اليوم التالي" لبنانيًّا.

واللافت أنّ التحوّل في لهجة الرّئاسة اللبنانيّة، من إدانة الغارات إلى الدّعوة إلى التفاوض مع التلويح بشرط وقف الخروقات الإسرائيليّة، جعل من رئاسة الجمهوريّة لاعبًا محوريًّا في هندسة "اليوم التالي". هذا التطوّر لم يأت من فراغ، بل هو امتدادٌ لتقاربٍ داخليٍّ يحتاج إلى موارد سياسيّةٍ أكثر ممّا يحتاج إلى غطاءٍ خارجيٍّ. 

على امتداد عقدين، تولّى "نموذج المقاومة" تحديد إيقاع الحياة العامّة بوجهيها، الدّاخليّ والخارجيّ. اليوم يتبدّى انحسار ذلك النّموذج في ترجمته الميليشيويّة وفي دوره كمنظومة حكمٍ موازيّة، وتحديدًا باتّفاق غزّة. وهذا بمثابة انحسارٍ لعالمٍ بكامله من القوى والعلاقات يضع المشرق العربيّ راهنًا أمام فراغٍ كبير. السّؤال هنا ليس "هل نحبّ ذلك أم نكرهه؟" بل، كيف يحمي لبنان نفسه ويصوغ مصلحته في عالمٍ كهذا؟ وهل يستطيع أن يعيد تعريف دوره بلا أن يعيد تعريف سلمه الأهليّ ودولته وسلاحه؟

 

بين "رسالة ترامب" و"تفويض الرّئيس"، تقاطعٌ أم تضارب؟
في المشهد اللّبنانيّ، يتقدّم خطابان متوازيان، الأوّل أميركيٌّ حادٌّ يتحدّث عن "نزع السّلاح" جزءًا من ترتيبات "اليوم التالي"، والثاني رئاسيٌّ لبنانيٌّ يدعو إلى مفاوضاتٍ بضماناتٍ بعد وقف النّار والتزام الحدود وسقوف القرار 1701. أفهما مساران متكاملان أم مشروعان متصادمان؟

في حديثٍ إلى "المدن"، يشير النّائب آلان عون إلى أنّ "الوساطة الأميركيّة ليست جديدةً منذ اندلاع الحرب، من ورقة باراك إلى لقاءات مورغان أورتيغاس. لسنا أمام تدخّلٍ خارجيٍّ بقدر ما نحن أمام حاجةٍ إلى وسيطٍ بين لبنان وإسرائيل في الاشتباك الجاري. المهمّ اليوم أن تكون أيّ مبادرةٍ شاملةً، تأخذ في الاعتبار هواجس ومطالب الفريقين كي يكتب لها النّجاح". لا يكتفي عون بالتّوصيف، يضيف مؤكّدًا الثّقة بمقاربة الرّئاسة، "لنا كامل الثّقة بما يقوم به الرّئيس على هذا الصّعيد. سار في درب حصر السّلاح منذ خطاب القسم، ووضع الجيش خطّته ويسهر على تنفيذها. وإذا كان من أسلوبٍ استيعابيٍّ وتطمينيٍّ لهواجس البعض، فهذا لا يلغي إصراره على المضيّ قدمًا في حصر السّلاح على مجمل الأراضي اللّبنانيّة". لكنّه يقابل ذلك بشرطٍ موازٍ، "لبنان يحتاج أيضًا إلى تطميناتٍ حول النّوايا الإسرائيليّة والأطماع التي تثير هواجس لدى فئةٍ من اللّبنانيّين. هذا ما يجب الحصول على ضماناتٍ بشأنه خلال المسار التّفاوضيّ".

يحسم عون "شبهة" التّضارب بين رسائل واشنطن وخريطة طريق بعبدا، "لا تناقض ما دام الهدف واحدًا. يجب إعطاء التّسهيلات السّياسيّة اللازمة للرّئيس كي يفاوض على أفضل الشّروط، تحت سقف إنهاء الصّراع العسكريّ وحماية السيادة من أيّ اعتداءٍ مستقبليّ. لا خطوط حمر توضع في وجه الرّئيس خلال مفاوضاته".

على الضفّة المقابلة، يقارب النّائب أنطوان حبشي (عن "الجمهوريّة القويّة") المسألة من زاويةٍ داخليّةٍ صرف. يقول، "لا نعدّ السّلاح نتيجةً لضغطٍ خارجيّ، بل نعتبره ملفًّا داخليًّا. رفضنا أيّ سلاحٍ خارج الدّولة منذ 2005 إلى اليوم. كلام ترامب ليس معيارنا، واجبنا أن تكون لنا دولة. وقد تبيّن أنّ هذا السّلاح، على رغم ما أحيط به، لا يملك قيمةً ردعيّة، ولم يستطع أن يحمي أهله ولا لبنان. وإذا دلّ كلام ترامب على شيء، فعلى أنّ المجتمع الدّوليّ والإقليميّ لن يساعد لبنان في إعادة الإعمار والخروج من أزمته الماليّة من دون استعادة الدّولة سيادتها". يجدّد حبشي موقفًا مرنًا في الشّكل حاسمًا في المضمون، "قد أفهم دعوة الرّئيس إلى التّفاوض، لكنّ السّلاح لم يعد مطروحًا للتّفاوض ولا للحوار ولا لأيّ مقاربةٍ تبقيه خارج سلطة الدّولة. من لا يريد تسليم سلاحه لا يريد تسليمه. المسؤوليّة اليوم على السّلطة التنفيذيّة، رئيس الجمهوريّة والحكومة، اللّذين اتّخذا قراراتٍ، ومطلوبٌ المضيّ في تنفيذها بالكامل".

وبينما تخيّط العواصم الكبرى ترتيبات الجنوب، يستحضر حبشي مرجعيّاتٍ طالما تكرّرت قبل غزّة وبعدها، "كنّا نطالب بتطبيق القرار 1701 قبل حرب غزّة وقبل حرب الإسناد التي افتعلها حزب الله وورّطت لبنان. القرار 1701 لا يقتصر على الجنوب وحده، ولم يطبّق كما يجب. وعندما طالبنا به وبالقرار 1559 لم تكن حرب غزّة قد اندلعت. هذا ملفٌّ داخليٌّ لبنانيٌّ لا علاقة له بما يريده الخارج. نقيس خياراتنا انطلاقًا من واقعنا، منذ 2006 إلى اليوم جرّ السّلاح خارج الدّولة الويلات بلا فائدة. وإذا كان التّمسّك به لأغراضٍ داخليّة، فحريٌّ بنا، درءًا للحروب الأهليّة، أن يجمع هذا السّلاح وتبسط الدّولة سيادتها على كامل أراضيها".

 

"الدّولة أو لا دولة"، اختبار الشّارع والمؤسّسات
يبقى امتحان "اليوم التالي" داخليًّا بامتياز. فحتّى لو وقّعت تفاهماتٌ على الحدود، ستولد أسئلةٌ من قبيل، كيف نضمن أمن مجتمعٍ تربّى على منطق "الحماية"؟ كيف نعيد تعريف "الكرامة الوطنيّة" من دون شعاراتٍ فارغة؟ وكيف نرمّم ثقة النّاس بمؤسّساتٍ تطالبهم بتسليم سلاحٍ مقابل رواتب متآكلةٍ وخدماتٍ منهارة؟

بعد غزّة، لن يبقى شيءٌ على ما كان عليه. هذا ليس تهويلًا بل توصيفٌ لزمنٍ جديد. لبنان أمام فرصةٍ تضاهي الخطر، يمكن أن يخرج من "اقتصاد الحرب" إلى "اقتصاد الرّبط"، ربط المرافئ والمرافق والطّاقة، شرط أن يحسم هويّة الممسك بقرار الحرب والسّلم. ويمكن أن يسقط في عزلةٍ تستدعي جولةً أشرس من المواجهة، يدفع فيها اللّبنانيّون مرّةً أخرى ثمن ما لم يقرّروا.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث