شهدَ الشرقُ الأوسطُ خلالَ العقودِ الخمسينَ الأخيرةِ نشوءَ ما يمكنُ تسميتُهُ بـ"حلفِ الأقلياتِ"، وهو تحالفٌ غيرُ معلنٍ، تشكّلَ على قاعدةِ تبادلِ المصالحِ بينَ أنظمةٍ ثيوقراطيةٍ (دينيةِ الطابعِ) وأنظمةٍ ديكتاتوريةٍ (عسكريةٍ أو أيديولوجيةٍ). كانَ الرابطُ بينَ الطرفينَ الخوفَ المتبادلَ منَ التحولِ الديمقراطيِّ ومن صعودِ الأكثرياتِ الشعبيةِ بما تحملُ من نزعةٍ إلى المشاركةِ والمساءلةِ. هذا الحلفُ لم يتأسسْ على قيمٍ أو مبادئَ مشتركةٍ، بل على هواجسَ وجوديةٍ ومصلحيةٍ. فالثيوقراطياتُ كانتْ ترى في الأنظمةِ المستبدةِ ضمانةً لاستمرارِ نفوذِها الطائفيِّ أو المذهبيِّ، فيما وجدتِ الديكتاتورياتُ في توظيفِ الأقلياتِ وسيلةً لضبطِ المجتمعاتِ وإدامةِ حكمِها باسمِ “حمايةِ التنوعِ". تجسدتْ هذه المنظومةُ في تلاقي أنظمةٍ مثلَ النظامِ الإيرانيِّ ذي المرجعيةِ الدينيةِ مع أنظمةٍ عربيةٍ سلطويةٍ، وأحيانًا في تواطؤاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ سمحتْ بتحويلِ مفهومِ “الأقلياتِ” إلى أداةٍ سياسيةٍ. وهكذا، تحوّلَ الدفاعُ عنِ الهوياتِ الفرعيةِ إلى ذريعةٍ لقمعِ الهوياتِ الوطنيةِ الجامعةِ، مما أجهضَ فرصَ بناءِ الدولةِ المدنيةِ الحديثةِ، ورسّخَ الانقساماتِ على حسابِ فكرةِ المواطنةِ المتساويةِ.
كانتْ نتائجُ هذا الحلفِ مدمّرةً على المستويينِ البنيويِّ والإنسانيِّ في الشرق الأوسط. فبدلَ أن تُشكّلَ الأقلياتُ عنصرَ غنىً ثقافيٍّ ودينيٍّ، تحوّلتْ إلى مادةِ صراعٍ وإقصاءِ، بفعلِ توظيفِها في مشاريعِ السلطةِ. أدّى ذلكَ إلى تآكلِ الدولةِ الوطنيةِ، إذ استُبدلتِ الولاءاتُ العامةُ بولاءاتٍ فئويةٍ، وصارَ معيارُ الانتماءِ هو الهويةُ الطائفيةُ لا الكفاءةُ أو المواطنةُ. انهارتْ منظوماتُ العدالةِ والشفافيةِ، وغرقتِ المجتمعاتُ في الفسادِ والعنفِ، وتحوّلَ الجيشُ والأمنُ إلى أدواتٍ لحمايةِ السلطةِ لا لحمايةِ الشعبِ. كما تسبّبَ هذا الحلفُ في تفكّكِ المجتمعاتِ منَ الداخلِ، وفي تهجيرٍ واسعٍ للسكانِ على أسسٍ دينيةٍ أو مذهبيةٍ، كما حدثَ في العراقِ وسوريا واليمنِ. أمّا على المستوى الفكريِّ، فقد ولّدَ التحالفُ بينَ الديكتاتوريّةِ والتعصبِ الدينيِّ ثقافةَ الخوفِ، وأضعفَ النخبَ المدنيةَ، وأخّرَ نشوءَ طبقةٍ سياسيةٍ ديمقراطيةٍ قادرةٍ على إدارةِ التنوعِ.
النتيجةُ النهائيةُ كانتْ إنتاجَ شرقٍ أوسطَ منهكٍ، عاجزٍ عنِ التطورِ الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ، تهيمنُ عليهِ العصبياتُ وتُغيّبُ عنهُ فكرةُ العقدِ الاجتماعيِّ المتوازنِ الذي يؤمّنُ المساواةَ ويضمنُ الحقوقَ.
تبدو المرحلةُ الراهنةُ بدايةَ انهيارِ هذا الحلفِ التاريخيِّ. فمعَ التغيراتِ العميقةِ التي شهدتْها المنطقةُ، من انتفاضاتِ الربيعِ العربيِّ إلى التحولاتِ في المواقفِ الدوليةِ، بدأ التوازنُ الذي جمعَ بينَ التطرفِ الدينيِّ والديكتاتوريّةِ يتفككُ. لم يعدْ منَ الممكنِ تبريرُ القمعِ باسمِ حمايةِ الأقلياتِ، كما لم تعدِ الثيوقراطياتُ قادرةً على احتكارِ الدينِ وتوظيفِهِ في خدمةِ السلطةِ. لقد كشفَ الواقعُ أنَّ الأنظمةَ التي بنتْ شرعيتَها على ثنائيةِ “الحمايةِ مقابلَ الولاءِ” لم تعدْ قادرةً على إنتاجِ الأمنِ أوِ الاستقرارِ. سقطتِ الأسطورةُ التي جمعتِ المستبدينَ ورجالَ الدينِ المتطرفينَ في خندقٍ واحدٍ، لأنَّ الشعوبَ باتتْ تدركُ أنَّ كليهما يحولُ دونَ قيامِ الدولةِ الحديثةِ. كما أنَّ التحولاتِ الإقليميةَ والدوليةَ، بما في ذلكَ إعادةُ ترتيبِ أولوياتِ القوى الكبرى، تُضعفُ شرعيةَ هذا الحلفِ الذي عاشَ على معادلةِ “الفوضى المنظمةِ". إنَّ ما نشهدُهُ اليومَ هو نهايةُ حلفٍ هشٍّ، فقدَ وظيفتَهُ التاريخيةَ، ولم يعدْ قادرًا على الاستمرارِ في ظلِّ صعودِ الوعيِ الشعبيِّ بمفهومِ المواطنةِ والكرامةِ والعدالةِ الاجتماعيةِ.
يُعدُّ انتصارُ فكرةِ قيامِ الدولةِ الفلسطينيةِ مدخلًا استراتيجيًّا لبدايةِ حلٍّ أوسعَ في الشرقِ الأوسطِ، لأنَّ جوهرَ الصراعِ في المنطقةِ إرتبطَ تاريخيًّا بغيابِ العدالةِ للشعبِ الفلسطينيِّ. إنَّ قيامَ دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ وذاتِ سيادةٍ لا يعني فقطْ إنصافَ الفلسطينيينَ، بل يعني أيضًا إسقاطَ منطقِ الهيمنةِ والعنفِ الذي غذّى حلفَ الأقلياتِ لعقودٍ. إنَّ تحقيقَ هذا الهدفِ يفتحُ البابَ أمامَ إعادةِ بناءِ العقدِ الاجتماعيِّ في المنطقةِ على قاعدةِ المساواةِ والمواطنةِ لا الهوياتِ الفرعيةِ. فقيامُ الدولةِ الفلسطينيةِ سيعززُ فكرةَ “الحقوقِ المتساويةِ للشعوبِ”، ويكرّسُ منطقَ القانونِ الدوليِّ بدلَ منطقِ القوةِ، ما يشكّلُ مقدمةً لإعادةِ الاعتبارِ للشرعيةِ والمؤسساتِ في سائرِ الدولِ. وبالموازاةِ، يصبحُ خيارُ المواطنةِ الحاضنةِ للتنوعِ هو النموذجَ القادرَ على إنقاذِ المجتمعاتِ منَ الانقسامِ والتطرفِ. فالمطلوبُ هو مشروعُ دولةٍ مدنيةٍ ديمقراطيةٍ تحترمُ الخصوصياتِ دونَ أنْ تحوّلَها إلى جدرانِ فصلٍ، وتستوعبَ جميعَ المكوناتِ في إطارِ مؤسساتٍ ضامنةٍ للحريةِ والمشاركةِ.
لبنانُ، الذي طالما قدّمَ نفسَهُ نموذجًا للتنوعِ والتعدديةِ، هو اليومَ أمامَ اختبارٍ مصيريٍّ، إما أنْ يتحوّلَ إلى مختبرٍ للانهيارِ الكارثيّ الفوضويّ لحلفِ الأقلياتِ، أو إلى منصةٍ لإطلاقِ نموذجٍ جديدٍ في المنطقةِ يقومُ على المواطنةِ. لم يعدْ ممكنًا استمرارُ المعادلةِ القائمةِ على توازنِ الطوائفِ لا على دولةِ المؤسساتِ. المجتمعُ اللبنانيُّ باتَ يختنقُ تحتَ وطأةِ الزبائنيةِ الطائفيةِ والانقسامِ العموديِّ الذي يعطّلُ أيَّ إصلاحٍ حقيقيٍّ. مواكبةُ المسارِ الجديدِ في الشرقِ الأوسطِ تقتضي أنْ يباشرَ لبنانُ إصلاحًا جذريًّا في مفهومِ الحكمِ. الانتقالَ من نظامِ المحاصصةِ إلى دولةِ المواطنةِ الدستوريةِ، على أنْ يكرّسَ الحيادَ الإيجابيَّ، وأنْ يحرّرَ قرارَهُ الوطنيَّ منَ الارتهاناتِ الخارجيةِ، وأنْ يعيدَ بناءَ اقتصادِهِ على أساسِ العدالةِ الاجتماعيةِ. فقطْ عندَها يستطيعُ لبنانُ أنْ يستعيدَ رسالتَهُ كبلدِ التعدديةِ الحيةِ، لا كملاذٍ للانقساماتِ. إنَّ إعادةَ تأسيسِ الدولةِ اللبنانيةِ على قاعدةِ الدستورِ والمواطنةِ هيَ الطريقُ الوحيدةُ لكي يواكبَ لبنانُ التحولَ التاريخيَّ الجاري في الشرقِ الأوسطِ نحوَ تجاوزِ الطائفيةِ وبناءِ الدولةِ المدنيةِ الجامعةِ.إتّفاقُ الطَّائِف مَدخَلٌ مؤسِّس وبنيويّ. قيادة سياسيَّة جديدة ومتجدِّدة بدءًا من انتِخابات 2026 سياقٌ تراكميّ ضروريّ.
