غارة المصيلح تفضح "منعزلات" الطوائف والمناطق: تعاطف إنتقائي؟

بتول يزبكالاثنين 2025/10/13
5.jpg
جمهورٌ عاش طويلًا في "منعزلاتٍ" طائفيةٍ وسياسيةٍ ومناطقيةٍ. (علي علوش)
حجم الخط
مشاركة عبر

لم يعد اللّبنانيّون يلتفتون إلى كلّ قصفٍ، فقد تعوّدوا أن يمرّ الحدث أمنيًّا، وأن تطمس تبعاته سياسيًّا. لكنّ غارات 11 تشرين الأوّل على المصيلح، شمال اللّيطاني، بدا كأنّها كسرت هذا الروتين. سلسلة ضرباتٍ على معارض جرّافاتٍ وحفّاراتٍ على طريق المصيلح، الزهراني، أصابت منشآتٍ مدنيّةً وتجاريّةً، وأغلقت لوقتٍ وجيزٍ شريانًا حيويًّا يصل بيروت بالجنوب، وأوقعت قتيلًا وسبعة جرحى، بحسب وزارة الصّحّة. الجيش الإسرائيليّ قدّم روايته المعتادة، "معدّاتٌ هندسيّةٌ يستخدمها حزب الله في إعادة الترميم". أمّا الوقائع الميدانيّة والصّور والبيانات، فثبّتت أنّنا أمام أوسع ضربةٍ منذ وقف إطلاق النار في تشرين الثاني الماضي.

اللافت في هذه الموجة لم يكن عدد الصواريخ أو حجم الخسائر وحدهما، بل أيضًا "ردّة الفعل السّياسيّة" المتباينة، جريًّا على الشائع، أو لنقل الانتقائيّة الصارخة في التّعاطف. مرّةً أخرى تظهر الحساسيّات اللّبنانيّة على سطحٍ يزعم وطنيّةً جامعةً، بينما الباطن طوائف ومناطق تعلن تضامنها أو تبخل به تبعًا لخريطة الولاءات لا لخريطة الضحايا. هنا بالتحديد ينشأ السّؤال الذي تناوله الرأي العامّ، لماذا ترفع الشكوى الدوليّة الآن، ولم ترفع أمس وأوّل من أمس، في بلدٍ صار الموت فيه "يوميّات"؟

 

الشكوى إلى مجلس الأمن، سياسة "الممكن" أم إدارة صورة؟

بعيد الضربات أصدر رئيس الحكومة نواف سلام توجيهًا إلى وزير الخارجيّة يوسف رجّي لتقديم شكوى عاجلةٍ إلى مجلس الأمن والأمين العامّ للأمم المتّحدة، بوصف ما جرى "انتهاكًا فاضحًا" للقرار 1701 وترتيبات وقف الأعمال العدائيّة. وبالفعل، باشرت البعثة الدّائمة في نيويورك الإجراءات ونشرت الرسالة كوثيقةٍ رسميّةٍ. هكذا قال بيان السراي، وهكذا كرّرته وسائل إعلامٍ عدّةٌ لبنانيّةٌ ودوليّةٌ. من الناحية الإجرائيّة نحن أمام خطوةٍ متناسقةٍ مع خطّ الحكومة منذ تشكيلها، التمسّك بالقرار 1701، وتأكيد أنّ قراري السّلم والحرب في يد الدولة. لكنّ توقيتها وطريقة تسويقها فتحا باب الشكوك حول "تمييزٍ" غير معلنٍ بين ضحايا وضحايا.

ليس في الشكوى جرمٌ بحدّ ذاته، كما تشير المصادر، المشكلة في "الاستنساب" وفي ما يتسرّب للنّاس من انطباعٍ بأنّ الدولة تتحرّك عندما تقع الضربة خارج "جغرافيا الحرب المعهودة"، أو عندما تلامس مناطق ذات رمزيّاتٍ معيّنةٍ، بينما تغدو الضربات اليوميّة في العمق الجنوبيّ "خبرًا قديمًا". هنا تتكثّف معضلتان، وفق المصدر، الأولى عجز الدولة عن حماية مواطنيها بالتّساوي، والثانية عجزها عن إقناع مواطنيها بالتّساوي أنّها حاولت ذلك.

 

برّي وجعجع، بيانان بلغتين متناقضتين على الورقة نفسها

موقف رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي جاء سريعًا، إدانةٌ صريحةٌ للعدوان واعتباره اعتداءً على "لبنان كلّه"، مع دعوةٍ إلى وحدة الداخل. لغةٌ معروفةٌ، تضع الحدث في إطار "العدوانيّة الإسرائيليّة" وتستحضر 1701، وتسلّط الضّوء على المدنيّين والبنية التحتيّة، وتطالب بتفعيل الضّغط الدوليّ. في المقابل قرأ خصوم برّي في ما جرى تأكيدًا على فشل "معادلة" الرّدع، ولا سيّما أنّ الاستهداف طاول منشآتٍ مدنيّةً وتجاريّةً بعيدةً عن خطّ الاشتباك التقليديّ.

أمّا رئيس حزب القوّات اللّبنانيّة سمير جعجع فاختار لهجةً أخرى، لا معنى، برأيه، لسيناريو "الاستنكار ثمّ الشكوى" ما دام السلاح خارج الدولة. "الحلّ الوحيد"، كما كرّر في مواقف متقاربةٍ خلال الأيّام الأخيرة، هو تسليم حزب الله سلاحه "في أسرع وقتٍ"، لأنّ الدولة وحدها القادرة على حماية اللّبنانيّين. هذا المنطق لا يندرج في خانة "تواطؤٍ" مع العدوان كما يتّهمه خصومه، بل هو، في روايته، استثمارٌ في السّلم الدائم عبر إعادة امتلاك الدولة قرار الحرب والسّلم، وإقفال الذريعة على إسرائيل وعلى الدّاخل معًا.

 

رسائل الغارة، الاقتصاد كهدفٍ عسكريٍّ

قراءة الرّسائل لا تقلّ أهمّيّةً عن رصد الأضرار، اختيار معارض الجرّافات والحفّارات هدفًا مباشرًا يكشف انتقال الاستهداف الإسرائيليّ من "الأهداف التكتيكيّة" إلى "بيئة الإعمار" نفسها، أدواتٌ وشركاتٌ قد تستخدم في إعادة بناء ما تهدّم، تصنّف في قاموس الجيش الإسرائيليّ "معدّاتٍ هندسيّةً تابعةً لحزب الله" أو "تخدم ترميم بنيته". بهذا المعنى يصبح الاقتصاد نفسه "هدفًا عسكريًّا"، يتداخل المدنيّ بالعسكريّ، والبشر بالآلة، والطريق العامّ بمنطقة القتال. ليس الأمر مستحدثًا في حروب المنطقة، لكنّ كثافته أخيرًا واتّساعه خارج مربّعات الاشتباك هما الجديد.

ومن يراقب البيانات الإسرائيليّة الأخيرة، أو تغطيات الصحافة المقرّبة من المؤسّسة العسكريّة، يلمسْ تكرارًا لعبارة "خرق تفاهمات ما بعد وقف النار" عبر "محاولات إعادة بناء" قدراتٍ أو مواقع ولو لغاياتٍ مدنيّةٍ. الخلفيّة السياسيّة واضحةٌ، لا إعمار بمعناه الاجتماعيّ قبل تفاهمٍ نهائيٍّ يثبّت الوقائع الحدوديّة والأمنيّة وفق اشتراطاتٍ صارمةٍ، وما لم يقل صراحةً يقال فعلًا، الضّغط على شروط الإعمار يوازي الضّغط على شروط السّياسة.

 

"تمييزٌ بين الضحايا" أم فشلٌ في تعريف الضحيّة؟

في الساعات الأخيرة، اشتعل النقاش حول "التّعاطف الانتقائيّ"، لماذا ترفع الشكوى الآن؟ ألأنّ الضحايا هنا "أقرب" إلى قلب السّلطة أو أنّهم من غير الشيعة أو من غير البيئة المُلامة على جرّ البلاد إلى الحرب الإسرائيليّة الأخيرة، أم لأنّ الجغرافيا أشدّ حساسيّةً؟ الرأي العامّ، ولا سيّما على المنصّات المحليّة، طرح ذلك بلا مواربةٍ. والحقّ أنّ التّمييز لا يقاس فقط بوجود شكوى من عدمها، بل أيضًا بطريقة صياغة الخطاب الرّسميّ حول الضحايا، أحيانًا تصبح الضحيّة "مادّةً" لتصفياتٍ حسابيّةٍ داخليّةٍ أو لتعزيز روايةٍ مسبقةٍ.

مصادر في "القوّات اللّبنانيّة" تقدّم روايةً أخرى، في حديثها إلى "المدن" تؤكّد أنّ لا علاقة للرّبط الجاري بين "استهداف المسيحيّين" وبين تحرّك الدولة. برأيها المنطقة مختلطةٌ ديموغرافيًّا، والشكوى رفعت لأنّ الضربة وقعت خارج نطاق المواجهة المعتاد، وفي منطقةٍ كثيفةٍ سكانيًّا، ولأنّ طبيعة الاستهداف لم تكن واضحةً. ثمّ تعود هذه المصادر لتضع كلّ ذلك في خانةٍ واحدةٍ، "جميع هذه الشكاوى، في النهاية، تصبّ في مسارٍ واحدٍ، أن يسلّم حزب الله سلاحه. فالاستهدافات ما كانت لتوجد لو كان قرار السّلم والحرب بيد الدولة وحدها".

هذا التّشخيص الصّارم يواصل منطقه إلى الخلاصة، "نستهلك أنفسنا بالبيانات والاستنكارات والشكاوى من دون نتيجةٍ، الحلّ أن يصبح القرار للدولة، وإلّا فالدّوران في الحلقة نفسها سيستمرّ". وعندما تسأل هذه المصادر عن التوسّع الجغرافيّ للاستهداف تجيب بحذرٍ، "الواضح أنّ الهدف كلّ ما يتّصل بحزب الله، بما في ذلك جرّافاتٌ وأعمال إعادة إعمارٍ، وقد تتّسع الأمور، وربّما بتغطيةٍ دوليّةٍ، خصوصًا بعد انتهاء حرب غزّة".

في المقابل يرى خصوم هذا الموقف أنّ اختزال المأساة بسلاح حزب الله وحده يغفل جانبًا آخر، إسرائيل تدير سياسة "عقابٍ بنيويٍّ" للمجتمع الجنوبيّ، تضرب البنى الّتي تسمح بإعادة الحياة، وتستغلّ الانقسام الدّاخليّ لتوسيع هامشها. وتاليًا فإنّ "التّسليم" بأنّ كلّ استهدافٍ "نتيجةٌ مباشرةٌ" للسلاح يتجاهل تاريخًا طويلًا من استخدام المدنيّين أداة ضغطٍ في الحروب.

 

بين "باسيفيّةٍ" مفقودةٍ وثقافةٍ سياسيّةٍ عالقةٍ

لعلّ المعضلة الأعمق ليست في "منطق" هذا الطرف أو ذاك، بل في غياب حركةٍ سلميّةٍ عابرةٍ للطوائف تعيد تعريف السّلم قيمةً بذاتها، لا مجرّد "وقف إطلاق نارٍ" أو "هدنةٍ". نقف دائمًا بين موقفٍ يمجّد العنف باسم "التغلّب"، وآخر يرفض العنف لكنّه لا يبني ثقافةً سلميّةً صلبةً. من هنا تبدو "الباسيفيّة" ترفًا فكريًّا عندنا، لا نهجًا سياسيًّا، فيما الحرب، حتّى عندما تهدأ، تظلّ مقياس السّياسة وأفقها. وهنا لا يعود الخلاف مجرّد اختلافٍ في "الأدوات"، بل في تعريف الدولة نفسها، هل هي جهازٌ إداريٌّ يفاوض العالم على الشكاوى والقرارات الدوليّة، أم هي كيانٌ يحتكر العنف المشروع ويعيد بناء العقد الاجتماعيّ؟ عند هذه النّقطة تحديدًا تنشأ الفجوة بين خطابين، خطاب "المقاومة" الذي يعد بحمايةٍ فعليّةٍ بوسائل غير شرعيّة، وخطاب "السّيادة" الذي يعد بسلمٍ مستدامٍ عبر احتكار العنف. كلاهما يتحدّث عن حماية المدنيّين، وكلاهما يملأ الطريق إلى هذه الحماية بأثمانٍ باهظةٍ على المدنيّين أنفسهم. والحال أنّ التوسّع الجغرافيّ للضربات إلى ما بعد مربّعات الجنوب المعهودة ليس "حادثةً عابرةً"، إذا صحّت القراءة الإسرائيليّة المعلنة، ردع "التّرميم"، فهذا يعني عمليًّا أنّ كلّ نشاطٍ اقتصاديٍّ ذي صلةٍ بإعادة الإعمار مرشّحٌ للاستهداف. نحن بإزاء "استراتيجيّة نزع القدرة على النّهوض"، أي ضرب شروط الحياة نفسها.

كلّ ما استنزف هنا، من تعبٍ ودموعٍ ودمٍ ومالٍ طوال أربعة عقودٍ، لم يصرفْ على الحفر والتّسليح وحدهما، كان يبنى، بالتّوازي، كيانٌ سياسيٌّ مكتمل الشروط خارج الجغرافيا وحدود الدولة، مشروعٌ نصفه متخيّلٌ ونصفه منجزٌ عمليًّا، كيانٌ يرى في "لبنان" مجرّد إطارٍ ضيّقٍ لا يتّسع "لدولة الحزب" وشعبها. جمهورٌ عاش طويلًا في "منعزلاتٍ" طائفيّةٍ وسياسيّةٍ ومناطقيّةٍ، وما رافقها من قطيعةٍ مع سائر الجماعات، ثمّ وجد نفسه في نظامٍ لا يملك خطابًا وطنيًّا موحّدًا ولا عقدًا جامعًا. وحين نهضت محاولةٌ لتبديل هذا المسار، "ثورةٌ" عالية السّقف والرّغبات، اصطدمت بأوّل اختبارٍ، تحويل الغضب العامّ إلى تنظيمٍ ومعنى، أو برنامجٍ بديلٍ للنموذج المتربّص بجمهوريّةٍ تتداعى. منذ تلك اللحظة صرنا أمام مفترقٍ جديدٍ يفرض إعادة صياغة تصوّرٍ للخروج من مأزقٍ وجوديٍّ يتغذّى من انقسام الداخل ومن "دولة ظلٍّ" تتمدّد فوق دولةٍ رسميّةٍ تتقلّص.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث