عقائد عديدة والمضمون واحد

مصطفى علّوشالاثنين 2025/10/13
خيام غزة (Getty)
قد تتمكن الأطراف الصناعية من تعويض ما لساق بترت، لكن، ما الذي سيعوض عن اليد التي تبني (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

"لا تشغل البال بماضي الزمان   ولا بآتِ العيش قبل الأوان

فقد توارى في الثرى راحل  غدًا وماضٍ من ألوف السنين" (رباعيات الخيام- أحمد رامي) 

 

لا يوجد تعبير أكثر صدقًا عن حال المجموعات السياسية، أو الأفضل القول السلطوية، في عالمنا سوى تصريح إبراهيم ماخوس، وزير خارجية سوريا أثناء حكم البعث ما قبل استيلاء حافظ الأسد على السلطة، بعد تنكيله برفاقه سنة 1970. وأقول مجموعات سلطوية ولا أقول أحزابًا، لأن سعيها للسلطة يتفوق على سعيها لتحقيق برنامج سياسي. كما أن صفة الزعامة أو رئاسة القبيلة تصح أكثر لكون تلك المجموعات ترتبط بأفراد يكون الحفاظ على سلطتهم، أو وجودهم، أهم بآلاف المرات من النصر والهزيمة، ويجوز من أجلهم استباحة أو التضحية بأرواح الناس ودمار بيوتهم.

إبراهيم ماخوس، الطبيب الماركسي العقائدي "زمط" من مخالب الأسد بلجوئه إلى الجزائر حيث عاد إلى مهنته، قال إنه ما هم إن دمرت المدن أو تم احتلالها، وما هم إن قتل الآلاف، لكن العدو فشل في إسقاط حزب البعث، معتبرًا أن حزبه هو القوة الوحيدة القادرة على قيادة الأمة نحو النصر! 

 

اليوم ذهب البعث، واندثرت الماركسية ومات زعماء قبائل ظنوا أنهم باقون إلى الأبد، وظهرت مجموعات تأخذ من الدين غطاءً لسعيها إلى السلطة، مفترضة أن الإمعان في الابتعاد عن التقاليد الدينية والالتزام بشعارات علمانية كالماركسية أو الديموقراطية أم الليبرالية، هي سبب الهزيمة، ربما عقابًا من المولى عز وجل. هذه المجموعات لم تأت مع ذلك بجديد، فهي كلها تستند إلى منطق واحد، تحقيق حكم الله على الأرض عن طريق وكيل ما، يأمر فيطاع، ويدعو للمزيد من التضحية والاستشهاد. لكن عنوان النصر أو الهزيمة بقي واحدًا وهو أن "العدو هزم لأنه فشل في القضاء على جماعتنا" لأنها الوحيدة القادرة على قيادة "الأمة" نحو النصر المبين. وعلى الطريق، يتحول زعماء القبيلة إلى أشباه أنبياء، أو أولياء، ويصبح الأبناء فداءً لهم والبيوت المدمرة ذخيرة لسلطتهم، وعند موتهم تبنى لهم الصروح العظيمة كمثال خوفو وخفرع ومنقرع وأباطرة الصين وجنكيز خان ولينين... تتحول ضرائحهم إلى مزارات مقدسة، ومن ثم إلى معالم سياحية، وينسى الناس بعدها كم من الأرواح ضحي بها وكم من البيوت دمرت في سبيل "تخليد ذكرى" القائد أو الزعيم. 

هذا بالضبط ما استند إليه قادة الصهيونية في دراسة عقليتنا في الاستمرار في إثم التضحية بالحياة والبيوت والأرض رغم الهزائم التي نتصورها انتصارات. ونعيد الكرة في النهج ذاته بالرغم من النتائج، مع قائد آخر وعقيدة أخرى على طريق هزيمة منتصرة أخرى، نخسر فيها المزيد من الأرواح والبيوت والمستقبل. 

 

اليوم نحن أمام استحقاق جديد عسى أن نتعلم منه بأن الحياة أفضل من الموت وبأن الرهان على البناء أجدى من استدراج الدمار. وهنا، لا أريد أن أحرم غزة من بطولتها في الصمود أمام آلة الموت، لكن مظاهر الاحتفال في لحظة إعلان اتفاق غزة أكدت أن أهل هذا القطاع العظيم يريدون أن يأملوا بالحياة والاستمرار بالبناء فوق الدمار. صحيح أن رد الفعل المنطقي على سبعة عقود من الإذلال والاعتقال التعسفي والإهانة والاستيلاء على الأرض والحصار هو شيء يشبه السابع من تشرين. وربما، لو أتت الخواتيم بالنصر المبين، حتى ولو كان مستبعدًا، لكان تحول من نظم هذه العملية إلى أسطورة. لكن ما فات الجميع هو أن الوحش الصهيوني كان يعول على رد فعل مماثل، لا بل يسعى إليه لتسويغ توحشه. وهنا، لن ألجا إلى منطق توهم المؤامرات، رغم احتمالها، لكنني كنت دائمًا أقول بأن عقليتنا وحدها هي مؤامرة مستدامة.

الدرس الأهم الذي يجب أن نحمله من تجاربنا، في فلسطين ولبنان وسورية هو أن الحياة ليست منة من زعيم يسعى للخلود، وليست ملكًا جماعيًا للأمة أو العقيدة أو الأوهام، بل هي ملك فردي لا يحق التفريط به. فتجربة الموت لا تعني من يفقد حياته، بل من بقي حيًا ليندبه ويفتقد وجوده. كما أن البيت المدمر يعني الأحياء وليس الأموات، كما المدرسة والجامعة والمستشفى. فلا شيء سيعوض عن الأب والأم والشقيق والأبناء، وقد تتمكن الأطراف الصناعية من تعويض ما لساق بترت، لكن، ما الذي سيعوض عن اليد التي تبني والعيون التي تقرأ لتتعلم وتترك معلوماتها لمن يأتي بعدها بأن لا زعيم ولا عقيدة تستأهل التضحية من أجلها. 

 

هي اليوم فرصة تاريخية علينا جميعًا التعويل عليها والاستفادة من اندفاعة دولية نحو فلسطين، هي ذاتها تلك الفرصة التاريخية التي أسست للدولة العبرية منذ سبعة عقود. ولا شك أن لا إسرائيل المتطرفة في عنصريتها، ولا حماس التي تسعى لتأكيد بقائها وبأن التضحيات لم تذهب سدًا، ولا إيران التي بنت امبراطوريتها العربية على مظلومية فلسطين يريدون لهذه الفرصة أن تصبح تحولًا نوعيًا في طبيعة المواجهة، أي من الانتصار المبين إلى الحفاظ على المكتسبات، ولو ضئيلة، والبناء عليها. 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث