سُنّة لبنان(3): المفتي على مفترق التمديد والانتخاب

خلدون الشريفالاثنين 2025/10/13
5.jpg
حين كُلف نواف سلام بتشكيل الحكومة، استقبلت دار الفتوى الخبر بتحفظٍ ظاهر (علي علوش)
حجم الخط
مشاركة عبر

عندما مُدِّدت ولاية المفتي عبد اللطيف دريان في صيف عام 2024، بدا الأمر في حينه مجرّد إجراء إداري لتجنّب الفراغ في رأس المؤسسة الدينية. غير أنّ الجدل الذي رافق وتلا التمديد كشف أنّ دار الفتوى دخلت مرحلة جديدة من التحدّي: هل تستطيع أن تحافظ على آليات تجديدها واستقلالها ورمزيتها في آنٍ واحد؟ وهل يمكن لمؤسسة دينية أن توازن بين واجبها الطائفي ودورها الوطني في زمن الانهيار؟

هكذا بدأت مرحلة جديدة في تجربة دريان، انتقل فيها من إدارة العلاقة مع القيادات السياسية إلى ضرورة تنظيم العلاقات الداخلية بميزانٍ دقيقٍ. 

 

دار الفتوى بين الإنهاك والتمديد

منذ عام 2019، واجهت دار الفتوى تحت إدارة المفتي دريان امتحانًا عسيرًا تمثّل في الحفاظ على مكانتها الرمزية وسط انهيارٍ ماليٍّ وسياسيٍّ تاريخي.

فبعد خروج سعد الحريري وتراجع الحضور السياسي السني وتقلّص موارد الأوقاف نتيجة الأزمة المصرفية، دخلت الدار طور شحٍّ ماليٍّ واعتمادٍ متزايدٍ على التبرعات المحدودة، سواء من أوقاف محلية أو من دعمٍ خليجي خجول اقتصر على أنشطة رمزية خلال شهر رمضان وبعض المناسبات.

ورغم هذا التراجع، تمكّن المفتي من الحفاظ على الحدّ الأدنى من انتظام العمل الإداري عبر تفعيل لجان المجلس الشرعي الأعلى عام 2021، ولا سيّما لجنتَي الأوقاف والتعليم الشرعي، وإطلاق مبادرات متواضعة اجتماعية وخيرية في مختلف المناطق.

لكنّ ملفّ التمديد في صيف 2024  اخرج تفاعلات سلبية داخل المجلس الشرعي الأعلى نفسه، وأخرج إلى العلن الانقسام الكامن بين “ المدرسة المؤسساتية العميقة” التي رأت في المفتي ركيزة استقرار، وبين تيارٍ إصلاحي أراد “تجديد الحياة الدينية عبر التداول القيادي”.

ففي جلستَي 6 و13 تموز 2024، صوّتت الغالبية على اقتراح تمديد ولاية المفتي سنتين إضافيتين بعد تعذّر الدعوة إلى انتخابات جديدة بسبب الخلاف حول آلية الترشيح. استند المؤيدون إلى نصٍّ في النظام الداخلي يتيح للمجلس “اتخاذ التدابير الاستثنائية منعًا للفراغ”، فيما اعتبرت الأقلية المعترضة أنّ التمديد “يخالف مبدأ التداول ويناقض روح المؤسسات الدينية”، وعبّرت عن اعتراضها ببيانٍ صريح في 15 تموز حذّرت فيه من “تحويل دار الفتوى إلى مؤسسة مغلقة تديرها مجموعة محدودة من المستشارين”، داعيةً إلى الاحتكام إلى النصوص لا إلى الأعراف.

ردّت الأمانة العامة للمجلس الشرعي في اليوم التالي ببيانٍ مقتضب أكدت فيه أنّ “التمديد جاء استنادًا إلى صلاحيات استثنائية يملكها المجلس بصفته المرجعية الدينية العليا للطائفة السنيّة”، مشدّدةً على أنّ “الفراغ في موقع الإفتاء يعني فراغًا في الموقع الوطني للطائفة”.

وفي الأسابيع التالية، اتُّخذت إجراءات إدارية بحقّ عددٍ من المعترضين، شملت نقل بعض القضاة الشرعيين، ما اعتُبر تدابير كيدية. ورغم الجدل الذي أثارته هذه الإجراءات، لم تتطوّر الأمور إلى انقسامٍ تنظيمي واسع، إذ فضّل معظم العلماء تجنّب المواجهة العلنية في ظلّ حساسية الظرف اللبناني العام.

وفي خلفية المشهد، برزت مواقف رؤساء الحكومات السابقين الذين أبلغوا دار الفتوى دعمهم الضمني لاستمرار دريان حفاظًا على وحدة المرجعية الدينية. أمّا السفارة السعودية فآثرت الصمت المعبّر، مكتفية بالتذكير بشكلٍ غير مباشر بثوابتها على أنّ “الاستقرار المؤسساتي أولى من الخلافات الشكلية”، فيما انتهجت السفارة المصرية الموقف نفسه، وهي التي كانت راعيةً أصلاً لوصول دريان إلى موقع الإفتاء.

بهذا التوازن، نجح المفتي في تجاوز الاعتراضات دون صدامٍ مباشر، مستفيدًا من الغطاء العربي ومن ضعف المعترضين  تنظيميًا  داخل المؤسسة، مع العلم أنّ مباحثاتٍ عميقة تجري بصمت لتنظيم البدائل.

لكنّ التمديد، وإن طوى أزمةً فورية، فتح الباب أمام سؤالٍ أعمق:

هل ما زالت دار الفتوى قادرة على تجديد نفسها من داخلها، أم أنّها دخلت زمن “التمديد للتمديد”؟

سؤالٌ سيبقى معلّقًا إلى نهاية الولاية الممدّدة عام 2026، حين يُفترض أن يُحدَّد إن كان المجلس سيعيد إنتاج التجربة نفسها أم يفتح الباب لمرحلةٍ جديدة في قيادة الإفتاء.

 

من التمديد إلى نواف سلام

مع تشكيل حكومة نواف سلام في شباط 2025، بدا وكأنّ باب الزعامات قيد الاقفال وباب المؤسسات قيد الفتح. 

ومنذ الأيام الأولى، اتّخذ المفتي دريان موقفًا داعمًا ولكن مشروطًا، إذ أكّد في تصريحٍ في 6 شباط أنّ الحكومة الجديدة “تمثّل فرصة لإعادة الاعتبار للدستور والطائف”، مشدّدًا في الوقت نفسه على أنّ “الشرعية الدينية لا تُمنح تلقائيًا لأي سلطة، بل تُكتسب من احترامها لمبدأ العدالة والمساواة”.

رأى دريان في نواف سلام نموذجًا لرجل الدولة المدني؛ نموذجٌ يثير حذر المرجعية الدينية بالمطلق، لكنّ تسارع الأحداث دفع المفتي للوقوف إلى جانب رئيس الحكومة حفاظًا على فكرة عودة “الدولة” والترويج لها.

 

من الحذر إلى الشراكة الحذرة

حين كُلّف نواف سلام بتشكيل الحكومة، استقبلت دار الفتوى الخبر بتحفّظٍ ظاهر. فسلام لم يشأ أن يُقدَّم كممثّلٍ للطائفة، بل كممثّلٍ لفكرة الدولة. وفي بيانه الأول، قال بوضوح: “لستُ مرشّح أيّ طائفة، بل مرشّح الدولة”.

غيابه عن دار الفتوى في أسابيع التكليف الأولى فُسِّر داخل الأوساط الدينية كإشارةٍ إلى فتورٍ مقصود تجاه المؤسسة، لا سيّما أنّه زار مرجعياتٍ أخرى قبلها. وسرعان ما تسرّبت التعليقات في بيروت وطرابلس عن برودةٍ متعمّدة بين الرجلين، قبل أن تتبدّد تدريجيًا.

فمع تصاعد التوتّر بين رئاسة الحكومة وحزب الله في آذار 2025 على خلفية بند حصرية السلاح، وجد سلام نفسه بحاجةٍ إلى مظلّةٍ دينية داعمة. فزار دار الفتوى في 17 آذار.

وفي إفطار جمعية المقاصد يوم 23 آذار، الذي حضره سلام وسفراء وشخصيات سياسية، وجّه المفتي كلمته إلى رئيس الحكومة قائلاً:

“دولة رئيس مجلس الوزراء القاضي الدكتور نواف سلام يقوم بمهمته السياسية والإدارية في حفظ لبنان وإخراجه من النفق المظلم الذي كان فيه. نواف سلام، نحن معك حتى يعود السلام إلى كلّ لبنان.”

 

كانت لهجة دعمٍ واضحة عكست تلاقيًا ظرفيًا بين الدار والسراي.

غير أنّ التحوّل الأبرز في نبرة دريان جاء في 26 حزيران 2025، خلال احتفالٍ لاتحاد جمعيات العائلات البيروتية بقاعة رفيق الحريري داخل جامع محمد الأمين، حين قال:

“لا دولة بدون المسلمين والمسيحيين، وأيّ تهميشٍ أو استبعادٍ للسنّة أمرٌ مرفوض، ونحن له بالمرصاد.”

كان ذلك أوّل خطابٍ رسمي يحمل نبرة احتجاجٍ ضدّ الإقصاء، وإن ظلّ ضمن الإطار الوطني العام. وفسّر وقتها أنّه يهدف لحماية الموقع السني الأول من محاولات تجاوزه الرئاسية، وتحذيرًا من أيّ محاولةٍ لتهميش موقع الطائفة داخل البنية الوطنية.

وفي رسالة المولد النبوي الشريف بتاريخ 4 أيلول 2025، عاد دريان إلى رفع السقف، لكن باتجاه السلاح قائلاً:

“إنّ مطلب حصر السلاح بيد الدولة هو مطلب لبناني أصيل… وما عاد من الممكن أن يسيطر تحالف السلاح والفساد على الدولة اللبنانية.”

قرأ المراقبون في كلماته تلك رسالة دعمٍ ضمنية لرئيس الحكومة في مواجهته مع حزب الله وإسنادًا له في محاولات الإصلاح واستعادة هيبة الدولة التي يعمل عليها.

 

نحو استحقاقٍ انتخابيٍّ جديد

بهذا النوع من التوازن، تمكّن دريان من ترسيخ موقع دار الفتوى كمرجعيةٍ جامعةٍ لا تساوم على مبدأ الدولة، ولا تنخرط في خطابٍ تصادمي. ومنذ ذلك الحين، أخذت العلاقة بين المفتي ورئيس الحكومة شكل شراكةٍ حذرةٍ قوامها التفاهم على ثوابت،    شراكةٍ سترتبط بموقع نواف سلام لا بشخصه. وستكون الانتخابات النيابية المقبلة البوصلة، خاصةً وأنّ التمثيل النيابي السني الحالي هجين، ما استدعى عنايةً عربيةً خاصة لمواكبة التحوّلات والانقلابات العميقة.

في ضوء ذلك، تطلّ الانتخابات النيابية المقبلة كمحكٍّ سياسي واجتماعي للطائفة السنية، ولقدرتها على إعادة تنظيم صفوفها داخل مؤسّسات الدولة لا خارجها. فدار الفتوى، التي أظهرت في السنوات الأخيرة نزعةً توفيقيّةً واعية، ستجد نفسها أمام امتحانٍ مزدوج: كيف تحافظ على مسافةٍ واحدة من جميع القوى، وفي الوقت نفسه تمنع تفكّك الكتلة السنية إلى جزرٍ متنازعةٍ ومتعادية.

أما نواف سلام، فسيكون أمام اختبارٍ موازٍ في قدرته على تحويل موقعه في رئاسة الحكومة إلى رافعةٍ سياسيةٍ ومدنيةٍ تعيد وصل الطائفة السنيّة بالدولة من جهة، وتحافظ على استقلاله عن الاصطفافات التقليدية من جهةٍ أخرى. وفي المقابل، يلوح في الأفق احتمال عودة سعد الحريري، ولو تدريجيًا، إلى المشهد السياسي، بما يعيد خلط الأوراق داخل الطائفة وخارجها. فالحريري، وإن انسحب من الساحة قبل أعوام، ما زال يمثّل حالة  سياسيةً جماهيرية وتنظيمية في آن، وشبكةً واسعةً من الولاءات، وقد يشكّل حضوره مجددًا نقطة جذبٍ لمن تعبوا من التجارب الجزئية والفوضى السياسية.

أما على مستوى القيادات المحلية، فثمّة حيويةٌ متزايدة في عكّار والبقاع وطرابلس وصيدا وبيروت، حيث تتحرّك شخصياتٌ سياسيةٌ تشكل حضورًا محليًا على وقع الفراغ المرجعي، من دون أن تملأ فراغ غياب الزعامات. 

هكذا، تبدو الانتخابات المقبلة مفترقًا بين زمنين: زمنٍ انتهى مع انكفاء الحريري، إذا ما استمر، وزمنٍ لم يتبلور بعد بين نواف سلام وتجارب الزعامات المحلية. تتهيّأ الطائفة لامتحانٍ سيُحدّد إن كانت قادرةً على إنتاج توازنٍ جديدٍ بين فعالياتها السياسية والمرجعية الدينية والشرعية، أو أنّ الإنهاك سيستمر والحضور سيخفت، وقد يكون ذلك مطلوبًا اقليميًا ودوليًا في مرحلةٍ تساوت فيها الطوائف بالفواجع: بشير الجميل، كمال جنبلاط، رفيق الحريري، وبالأمس القريب حسن نصرالله. فواجع قد تعيد تشكيل المسرح السياسي في الانتخابات المقبلة على قاعدةٍ جديدة: تساوي الجميع في الضعف والوهن. 

 

الخلاف بلا قطيعة

تتقاطع التجارب وتتوالى الأزمنة، من صائب سلام وحسن خالد إلى نواف سلام وعبد اللطيف دريان، لتُظهر أنّ خصوصية السنّة في لبنان ليست في توحّدهم، بل في قدرتهم على تفادي القطيعة.

فالخلاف عندهم ليس انهيارًا، بل أسلوبُ تكيّفٍ مع التعدّد في الرأي والمصلحة. وما يجمعهم في النهاية هو إدراكهم أنّ بقاء الطائفة رهنٌ ببقاء الدولة.

في هذا المعنى، يُحسب للمفتي دريان أنّه لم يكتفِ بدور الشاهد على مرحلةٍ انتقالية، بل أسهم في هندستها بهدوءٍ، من دون أن يتورّط في معارك الآخرين. يدير التوازن وفق قاعدة رجل دينٍ يحاور رجال السياسة والسلطة من خلال احترام الدولة، وينتظر من رجال السياسة والسلطة أن يعترفوا بدور دار الفتوى كما دور المرجعيات الطائفية جميعًا.

وإذا كان الزمن المقبل سيحمل مفتيًا جديدًا وزعاماتٍ جديدة، فإنّ التجربة التي عاشها دريان تترك درسًا واضحًا: يمكن للسلطة الدينية أن تكون حكمًا لا طرفًا، وأن تحافظ على حضورها لا بالعصبيّة بل بالتوازن، وأن تصون وحدة الطائفة كما تصون الدولة نفسها — بخلافٍ دائم، لكن من دون قطيعة.

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث