بين الحماسة الأميركية والمضض الإسرائيلي: قراءة في اتفاق غزة

فؤاد الديرانيالأحد 2025/10/12
غزة (Getty)
بدا نتنياهو وكأنه يُساق إلى اتفاقٍ لا يرغب فيه (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

لا جدال في أن الطرف الذي فرض إيقاع الاتفاق حول غزة هو الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي سعى إلى تقديم نفسه هذه المرة بوصفه "صانع سلام" على طريقته الخاصة، عبر مقاربة تقوم على الجمع بين الضغط والاحتواء، أو بين العصا والجزرة، وعلى المزاوجة بين إغراءات إعادة الإعمار والتهديد بالاستنزاف المستمر وبفتح أبواب الجحيم.

وبذلك يقلب ترامب المعادلة التي صاغها المفكر البروسي كارل فون كلاوزفيتز حين قال إن الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى، لتغدو الدبلوماسية والسياسة عنده استمرارًا للحرب، ولكن بوسائل أخرى.

فهذه المقاربة، وإن بدت براغماتية في ظاهرها، ترتكز على فرض ميزان قوى جديد لا على تسوية عادلة. وهي تُرغم الأطراف على القبول بالنتائج الميدانية باعتبارها "أمرًا واقعًا"، وتحوّل الدبلوماسية إلى أداة لإدارة الصراع والاستثمار فيه، لا لإنهائه.

وفي المقابل، بدا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكأنه يُساق إلى اتفاقٍ لا يرغب فيه، بعدما تداخلت عليه الضغوط الأميركية والدولية والداخلية. أما حركة حماس، فوجدت في الاتفاق مخرجًا اضطراريًا من حرب أنهكتها.

وعلى الرغم من الكلفة الباهظة المترتبة على سلوك هذا المخرج، فإنه يبقى السبيل للحفاظ على الحد الأدنى من تماسك النسيج الاجتماعي في قطاع غزة ومنع تهجير سكانه.

 

اعترافات خارج السياق المألوف

لم يأتِ الاتفاق في فراغ، بل تزامن مع تحوّل نوعي في المواقف الدولية تُرجم باعتراف مجموعة واسعة من الدول الغربية بالدولة الفلسطينية، من بينها بريطانيا، فرنسا، كندا، أستراليا، إسبانيا، إيرلندا، النرويج، البرتغال، لوكسمبورغ، ومالطا.

ويمثل هذا الاعتراف الجماعي قفزة سياسية غير مسبوقة في العالم الغربي، إذ خرج عن النمط التاريخي القائم على الحذر والتردّد، وعبّر عن تحول في المزاج الشعبي الأوروبي الذي بات أكثر انتقادًا لإسرائيل وأشد تعاطفًا مع الفلسطينيين. وهو التحول الذي حصل متأخر جدا نتيجة ما فرضه الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية من التضحيات، لا نتيجة يقظة ضمير الأنظمة المعنية أو صحوتها المفاجئة على حقوق الإنسان.

وهنا تشير استطلاعات الرأي إلى أنّ جيل الشباب، ولا سيما جيل Z، بدأ يصوغ رؤيته الخاصة حول الصراع، متأثرًا بصور الدمار والضحايا، ومتحرّرًا من الخطاب التقليدي الذي برّر لسنوات السلوك الإسرائيلي بوصفه دفاعًا عن النفس. وهذا التحول الثقافي قد يُترجم لاحقًا في صناديق الاقتراع، مؤذنًا بتبدّل أعمق في السياسات الخارجية لدول كانت تاريخيًا تغلّب المصالح على الحقوق والمبادئ.

 

حماس بين الإنهاك والمرونة الاضطرارية

بعد عامين من القتال، وجدت حركة حماس نفسها أمام واقع ميداني قاسٍ: نزفٌ في القيادة الميدانية، ونقص في السلاح والذخيرة والعتاد، وضغط سياسي ومالي متزايد من أطراف إقليمية كانت حتى وقت قريب من أبرز داعميها.

هذا الواقع فرض عليها مرونة اضطرارية سمحت لها بتقبّل الاتفاق كـ حدٍّ أدنى من الخسارة لا كهزيمة سياسية شاملة. فهي تدرك أن الانسحاب المؤقت من إدارة غزة أهون من خطر تهجير السكان بالكامل، وأن البقاء داخل المعادلة، ولو من موقع أضعف، أفضل من السقوط الكامل خارجها.

 

الاضطرار الإسرائيلي وتبدّل الأولويات

على الجانب المقابل، وجدت إسرائيل نفسها أمام تحدٍّ مركّب:

   •   من جهة، استحالة الحسم العسكري الكامل في غزة دون تعريض حياة الأسرى للخطر، ودون الانزلاق في مواجهة طويلة وغير محسومة النتائج.

   •   ومن جهة أخرى، ضغط أميركي متزايد يرى أنّ استمرار الحرب يهدد المصالح الاستراتيجية الأوسع لواشنطن في الشرق الأوسط.

فالإدارة الأميركية لم تعد تنظر إلى الحرب بعيون تل أبيب وحدها، إذ ترى أن الاغتيالات أو التدمير المحدود الذي يراكمه نتنياهو كإنجازات تكتيكية، يضرّ بالهدف الاستراتيجي الأكبر المتمثل في إحياء اتفاقيات أبراهام وتوسيعها لتشمل دولًا عربية وإسلامية إضافية.

 

تصدّع الداخل الإسرائيلي

في الداخل، تتسع الشقوق السياسية والاجتماعية. فقد انطلقت المعارضة من أهالي الأسرى لتتحول إلى تيار رأي واسع يضم شخصيات أمنية وعسكرية سابقة، وجزءًا من النخب الإعلامية والأكاديمية والسياسية.

هذه الأصوات أخذت تُحمّل نتنياهو مسؤولية الإخفاقات، وتروّج لمعادلة محرجة قوامها أنّه يواصل الحرب فقط من أجل بقاء حكومته، لا من أجل تحقيق أهداف وطنية أو أمنية حقيقية.

وقد وجدت هذه المقولة صدى واسعًا في الشارع الإسرائيلي، ما جعل رئيس الوزراء في موقع دفاعي دائم، مضطرًا إلى التوازن بين كلفة التراجع وكلفة الاستمرار في الحرب.

ومع اقتراب الانتخابات العامة بعد أقل من عام، أصبح نتنياهو محاصرًا بين ضغوط الداخل ومطالب الخارج، فقبل بالاتفاق على مضض باعتباره تسوية اضطرارية لتجنّب الانفجار السياسي.

 

الحماسة الأميركية وحسابات ترامب الانتخابية

من جهته، تعامل ترامب مع الملف من زاوية انتخابية واضحة. فمع اقتراب الانتخابات النصفية، سعى إلى تقديم الاتفاق كإنجاز دبلوماسي يميّزه عن أسلافه، ويعيد تثبيت الدور الأميركي في منطقة تشهد تنافسًا متزايدًا بين واشنطن وموسكو وبكين.

يريد ترامب أن يثبت أنّ بلاده ما تزال الوسيط الأوحد القادر على فرض التوازن بين إسرائيل والعالم العربي، وأنه وحده يمتلك القدرة على تحويل التفوق العسكري الأميركي إلى نفوذ سياسي حاسم.

وبذلك يسعى إلى انتزاع عنوان انتخابي قوي يُسوّق داخليًا بوصفه “نجاحًا في إعادة الاستقرار إلى الشرق الأوسط” بعد سنوات من التراجع الأميركي.

 

بين الحماسة والمضض

في النتيجة، وُلد اتفاق غزة في منطقة رمادية بين الحماسة الأميركية والمضض الإسرائيلي، بينما شكّلت المرونة الاضطرارية لحماس الركيزة التي سمحت بتدوير الزوايا.

لم يخرج أي طرف منتصرًا تمامًا، لكن كل طرف خرج متنفّسًا من عنق الزجاجة:

واشنطن سجّلت إنجازًا دبلوماسيًا، وتل أبيب أوقفت نزيفها الداخلي، وحماس حافظت على وجودها السياسي وعلى ما بقي من غزة.

 

لبنان بين التبريد والتصعيد

يبقى السؤال: هل يمتد مفعول الاتفاق ليشمل لبنان؟

في ظل السخونة المتصاعدة على الجبهة الجنوبية، حيث تتعمّد إسرائيل إبقاء التوتر قائمًا، يطرح الاتفاق احتمالين متناقضين:

   •   أن يفتح الباب أمام تبريد نسبي يعيد ضبط الإيقاع الميداني. 

   •   أو أن يدفع إسرائيل إلى تصعيد محدود لتثبيت معادلة الردع في وجه حزب الله وتعويض أي تراجع في غزة.

وبين هذين الاحتمالين، يبقى الأفق مفتوحًا على جميع الاتجاهات، تبعًا لقدرة واشنطن على ضبط حليفتها، واستعداد الإقليم لالتقاط الاتفاق لا كاستراحة مؤقتة فحسب، بل كفرصة لإعادة بناء توازن جديد في زمنٍ لم تهدأ فيه بعد نيران الأزمات؛ ونسبيًا تبعًا لقدرة اللبنانيين على التعامل المسؤول مع هذا القدر من الاحتدام.

 

Loading...

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث